لعل لأكواب الشاي قصة طريفة في حياتي فمنذ مغادرة عائلتي لبلدي سوريا في 1979م وذلك في بداية الأحداث التي شهدتها سوريا وماتبع ذلك من أحداث عام 1980 و1982 فمنذ ذلك الوقت وأكواب الشاي تحتل في حياتي مكانة خاصة، فقد مضت بنا الأيام بعد استقرارنا في بلد عربي مجاور ووصول الأنباء إلينا بأن الجهات الأمنية في سوريا بدأت باعتقال النساء في سابقة هي الأولى من نوعها في بلدنا الحبيب وخشية الوالد علينا إذ كان لي من الأخوات ثلاث في سن الشباب فصرف الوالد الكريم النظر عن فكرة رجوعنا إلى سوريا، وهكذا فقد بدأت حياتنا تسير في محطة مختلفة، في بلد غريب، نشعر بالغربة ونستشعرها قصداً لأجل أننا كنا باللا شعور عندنا نمني النفس بأن بقاءنا في هذا البلد بقاء مؤقت ولابد من عودتنا إلى بلدنا، ولم نكن نسمح لأنفسنا بأن تركن إلى الشعور بالاستقرار مهما كانت حاجتنا إلى هذا الشعور الذي يمدنا بالاحساس بالأمان، فكأننا نؤكد نوعاً من الوفاء لبلدنا بهذا الأمر، وتنامى هذا الاستشعار القسري – من داخل نفوسنا - بعدم السماح لأنفسنا بالشعور بالاستقرار فكلما برزت الحاجة لشراء أدوات منزلية نحتاجها يومياً كان لابد من شرائها فنقوم بشرائها كأننا مجبرون على ذلك ومدفوعون دفعاً بالحاجة إليها ولم نكن نسمح لأنفسنا بالاستمتاع بشرائها، فكأنها واجب علينا القيام به وكفى، وكأن استمتاعنا بشرائها هو نوع من الخيانة لبلدنا، فعلينا أن لا نبيح لأنفسنا بالاستمتاع بأي شيء - ولو كان أكواب شاي - يجعلنا نبعد عن العودة إلى بلدنا والركون إلى الغربة. ومن الطبيعي أن أكواب الشاي من أهم الأدوات لأي مطبخ، وهكذا فقد أجبرنا أنفسناعلى شراء مجموعة أو مجموعتين لا أذكر لطول العهد بهذا الأمر، ثم مع وجود عدد كبير من الأطفال في بيتنا فقد كنا عشرة أولاد أكبرنا أختي التي كانت في السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وأصغرنا رضيعة تملأ حياتنا بهجة وأنساً، إلا أن هؤلاء الأولاد العشرة مابين سن السنة و السابعة عشرة كان من الطبيعي والبديهي أن تكثر حوادث كسر أكواب الشاي، وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن تنشأ الحاجة ثانية لشراء أكواب شاي وهكذا فكلما اقتربت أكواب الشاي من الانتهاء كنا نقوم بشراء مجموعة جديدة من أكواب الشاي على مضض، فكنا نعتقد أن الوقت المتبقي لنا في غربتنا لا يحتاج إلى أكواب شاي جديدة، فقد كنا نعيش على أمل نغذيه باستمرار بأحلام وتوقعات تصل إلى مرحلة شبه اليقين في حالات عدة، فإذا اقترب رمضان فترانا نؤكد لبعضنا بعضاً بأن رمضان هذا سنقضيه في سوريا، فلقد طالت غربتنا، واشتد شوقنا وحنيننا إلى مرابع طفولتنا وذكريات الأهل والأحباب، وإذا اقترب العيد فنبدأ بالحلم ثانية بأننا لابد سنقضيه في سوريا، وهكذا فقد تتابع رمضان تلو رمضان، وعيد تلو عيد، ونحن نمني النفس بعودة وشيكة وقريبة، ولكن قضية أكواب الشاي كانت دائما تثب أمام أعيننا كل فترة وأخرى، إلى أن طال الزمان فانقضت عشر سنوات تبعتها عشر أخر، وتناسينا أكواب الشاي وأجبرنا أنفسنا على الاستمتاع بشراء أكواب شاي بدون ذلك الإحساس بالذنب أو الخيانة، وتبعت تلك العشر الأخر عشر أخر أخرى فتكاملت ثلاثون سنة قضيناها خارج سوريا مبعدين قسراً عن بلدنا، مجبرين جبراً على تأجيل أحلامنا وآمالنا، إلى أن بدأت شرارة مباركة في درعا من الثورة السورية التقطتها أفواه طيور مباركة نثرتها في سماء حمص وتلبيسة والرستن واللاذقية، لتتبعها في معرة النعمان وحماة والقامشلي والبوكمال، لتشمل ريف دمشق وإدلب وحلب، وعادت قضية أكواب الشاي ثانية تقفز أمام عيوني فقد تزوجت تلك الفتاة التي غادرت سوريا وعمرها عشر سنوات وأصبح عندها خمسة أطفال وعادت قضية أكواب الشاي لتهزني وتجبرني على الشعور بالذنب والخيانة عندما دعت الحاجة إلى شرائها قبل أيام، فأصبحت أسوف وأسوف شراء تلك الأكواب فأقول لنفسي لعلنا نعود إلى سوريا ولاحاجة لزيادة الأغراض في البيت فإذا أردنا العودة والسفر فلا أريد أن أشغل نفسي وأثقل عليها في كيفية التخلص من هذه الأشياء التي يمتلئ بها المنزل، وهاأناذا الآن قد عزمت على شراء أكواب شاي جديدة لكن ليس هنا- في الغربة- وليس الآن، بل في سوريا هذه المرة ولن أسمح لنفسي ولا لأحد غيري بأن يمنعني من هذا الحق في شراء أكواب شاي في بلدي والاستمتاع بها. فالعودة وشيكة والأمل يحدونا من جديد والأحلام بدأت تزهر ثانية وأطفالي الذين لم تطأ أرجلهم أرضهم ولم تكتحل عيونهم بالنظر إلى ربوع بلادهم سيدخلونها قريبا بإذن الله وسنرفع رؤوسنا عالياً بأن ثلاثين سنة من الغربة لم تنقص من عزيمتنا ولم توهن من إرادتنا وأن صبرنا قد أثمر وأينع ثماراً ناضجة تنادينا بشوق ونحن قمنا بتلبيتها مسرورين مستبشرين.