الاستفتاءات الشعبية هي قدس أقداس أي بناء ديمقراطي في العالم كله ، هذه بديهية سياسية ، وعندما يراد طرح شيء ذي بال أو بالغ الخطورة ، يتم اللجوء إلى الاستفتاء ، لأنه صاحب السيادة البشرية ومرجعية كل سلطة ولأنه هو الذي سيتحمل مسؤولية اختياره ، وعندما تريد دولة أن تؤسس لدستور ، وهو المرجعية العليا للمشروعية في الدولة ، أو أن تعدل في نصوصه ، تلجأ إلى الاستفتاء من أجل "توثيق" قواعد الدولة بأعلى درجات المشروعية ، وبالتالي فعندما نقوم في مصر الثورة بإجراء استفتاء جماهيري ضخم ، مثل الذي حدث في 19 مارس ، ويصوت الشعب على مواده بحسم ووضوح ، فإن من الخطورة بمكان أن يأتي أحد ، أو أي حزب أو قوة سياسية مهما عظمت أو صغرت ، لتخرج لسانها للشعب كله وتقول بلسان الحال "بلوه واشربوا ميته" ، وأني أملك رؤية أخرى وبرنامج وطني آخر أفضل من الذي اختاره الشعب ، هذا عبث خطير ومروع . وواضح جدا لكي ذي عين ، أن من يتحرشون بالاستفتاء الآن ، ويتحدثون عن إلغائه من خلال طرح برنامج جديد ، هم أنفسهم الذين حشدوا الناس في التصويت من أجل قول "لا" ، واستخدموا كل أدوات الصراع السياسي ، بما في ذلك الندوات والمؤتمرات وتجييش كافة وسائل الإعلام من صحف وفضائيات ومواقع الكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي وتوزيع البوسترات في الشوارع ، وفي النهاية صوت الشعب ضد ما أرادوا ، وبنسبة لا تقبل أي شك أو احتمال ، ثمانون في المائة تقريبا قالوا نعم ، وعشرون في المائة فقط رفضوا الاستفتاء ، وألف باء الديمقراطية ، أن تحترم الأغلبية شجاعة الأقلية وجهدها الذي مكنها من حصد أصوات 20% من الناخبين ، ولكن من البديهي أن ألف باء الديمقراطية أن تنحني الأقلية لإرادة غالبية الشعب وتعلن احترامها للنتائج والتزامها بما تتمخض عنه ، وكان يفترض أن الأمر انتهى من ساعتها ، وأن الجميع بدأ يتفرغ من أجل الإعداد لمعركة الانتخابات ، البرلمانية والرئاسية ، ولكن ما حدث أن "الأقلية" السياسية تفرغت للتآمر على الاستفتاء ، واختراع الأفكار والمشروعات والآراء والبرامج التي تنتهي جميعها إلى إلغاء الاستفتاء ، لنصل إلى النتيجة العملية : الشعب يريد ولكننا نفعل ما نريد . وكما قلت سابقا ، أي تلاعب بموجبات الاستفتاء الأخير ، سيعني ضياع حرمة الاستفتاء في مصر ، وبالتالي أيضا ضياع حرمة أية انتخابات ، ويمكن بسهولة ، إذا أتى أي استفتاء مقبل على غير هوى قوة شعبية كبيرة أو صغيرة ، أن تقول للجميع "بلوه واشربوا ميته" ، هذا لا يلزمني ، وأنا لدى اقتراحات أخرى تعبر عن المصلحة الوطنية بصورة أفضل ، ولن توجد قوة في مصر تستطيع أن ترفض هذا المنطق ، منطق "بلوه واشربوا ميته" ، لأننا قبلناه سابقا ، وجعلنا له سوابق ، وأصبح أمرا عاديا ، وليس جريمة ديمقراطية . والذي يدهشك ، أن جماعة ال 20% ، لا يعترضون على الاستفتاء لأي أسباب لها منطق قانوني حاسم أو وطني صريح ، ولكنها "افتكاسات" كما يقول العوام في سخريتهم من المواقف غير المعقولة أو التي لا تتأسس على منطق ، مثل دعوتهم لتأجيل الانتخابات بدون الالتزام بالموعد الذي قرره الاستفتاء الدستوري ، ثم يشرحون المبررات التي تجعلهم يلغون استفتاء دستوريا ، فيقول لك أحدهم "أصل أنا مش جاهز للانتخابات" ، فيخرج الثاني يقول : نؤجلها شهرين ، فيخرج ثالث يقول : نؤجلها سنة ، ويخرج رابع يقول : نؤجلها مرحلة زمنية كافية لكي تستعد القوى الجديدة وترتب أمورها ، وهكذا ، والمحصلة أنه يعني تعليق المشروع الديمقراطي لأن "جنابه" مش جاهز ، وينبغي أن تنتظر مصر كلها "جنابه" حتى يكون جاهزا . ثم يدعو آخر بأن نبدأ بانتخابات رئاسة الجمهورية قبل انتخابات البرلمان ، ومستحيل أن تجد أي منطق لهذه اللعبة يتفق عليه شخصان ، والأمر الذي تستشعره أن بعض الطامعين يخشى أن يفشل في توفير المقاعد البرلمانية اللازمة لترشيحه ، ثم يدعو آخرون لإنجاز الدستور الجديد الآن وليس وفق ما قرره الاستفتاء بعد انتخابات البرلمان واختيار لجنة منتخبة من أعضاء البرلمان ، يمكن أن تكون غالبيتها من خارجه ، ثم تسأل أسئلة بديهية ، لا تجد عليها أي إجابة ، مثل من الذي يختار أعضاء هذه اللجنة ، ومن الذي يفوض من اختار ، ثم ما هي الضرورة لهذه "الافتكاسات" ، يقول لك أنه بسبب الخوف من اختيار اللجنة الدستورية بعد الانتخابات فيأتي تشكيلها على هوى التيار المهيمن على البرلمان وبالتالي يصوغ نصوص الدستور على مقاسه ، وهي وساوس فارغة ، ولا تنتهي ، لأن هذا المنطق يعني أن نلغي البرلمان نفسه فيما بعد ، لأنه حتى لو أنجزت الدستور الآن ، فمن البديهي والمشروع ديمقراطيا أن تستطيع أي قوة تملك ائتلافا قويا في البرلمان المقبل يصل إلى الثلثين أن تدعو إلى تعديلات دستورية جديدة وتطرحها للاستفتاء من جديد ، فما الحل وقتها ، نلغي البرلمان ؟! أشعر بالأسى الشديد ، والإشفاق ، على شخصيات قانونية وسياسية وأكاديمية ، يورثها العناد التورط في مواقف مشينة للغاية ديمقراطيا ، ويضطرهم "العناد" إلى خيانة كل الحرية وحق الشعب في الاختيار والديمقراطية التي طالما بشروا الناس بها ، وأكثر ما يحزنني أن ينسى ولا أقول : يخون بعض أبناء الثورة ، شعارها الأساس ورايتها الأعلى : "الشعب يريد" . [email protected]