لا ينبغي القلق من الحماسة الزائدة لبعض الشباب تجاه أحداث ووقائع ما بعد الثورة ، والحديث المتكرر عن مليونية كل جمعة ، في العادة تحولت إلى بضعة آلاف ، لأنها تحولت تدريجيا إلى مطالب فئوية في صيغة سياسية تعبر عن قطاع محدود من القوى السياسية ، ولم تعد تعنى بالمشترك العام بين قوى الثورة ، فقد انتهى وقت المليونيات بانتصار الثورة ، ويمكن أن تعود بعنفوان شارع ما زال حيا وفوارا إذا مس أحد الأهداف الاستراتيجية الأساسية التي قامت الثورة من أجلها ، انتخابات برلمانية شفافة في موعدها بإشراف قضائي كامل ، وحكومة منتخبة ، ورئيس جمهورية منتخب ، ودستور جديد يلبي مطالب وأشواق الأمة في الحرية والكرامة والتعددية ويمنع انفراد أي قوة بالهيمنة على مقدرات البلاد ويمنع بالأحرى صناعة أي فرعون جديد ، سواء كان بعمامة أو بقبعة على حد سواء . من حق بعض الشباب المتحمس أن يعبر برمزية عن قلقه من أي شيء لا يراه من وجهة نظره معبرا عن طموحه وما كان ينتظره بعد الثورة ، تأخر محاكمات أو تأخر إزالة بعض رواسب النظام القديم أو غير ذلك ، طالما كان في إطار احترام التعددية والقبول بالاختلاف مع بقية قوى المجتمع ، واحترام شركاء الثورة بمن فيهم القوات المسلحة ممثلة في المجلس الأعلى الذي يبدو أن كل ذنبه الآن أنه ملتزم بوعده للشعب وبالمسار الذي اختاره الشعب !! ، والذين يقولون أن المجلس ليسوا ملائكة فوق النقد ، وهو كلام صحيح ولكنه حق يراد به باطل ، عليهم أن يحكموا على جهد المجلس العسكري أيضا على أنه جهد بشري وليس ملائكي ، وبالتالي وجود بعض التقصير أو الملاحظات فيه لا يعني مهاجمة شركاء الثورة أو التحرش بهم ، وعلينا أن نتذكر أن الجيش يتحمل مسؤولية تاريخية مفاجئة داخل الوطن وخارجه ، أمنية وسياسية وإدارية وتعليمية وإعلامية واقتصادية وغيرها ، ولم تكن هناك أي قوة شعبية أو رسمية أخرى في مصر خلال تلك الفترة تستطيع أن تتحمل هذا الإرث الخطير وتحفظ الدولة من التفكك ، أما أن يحاول بعض الشباب أن يفرض رأيه وسلوكه ومشاعره على الجميع ، ويفوض نفسه بنفسه أنه الحاكم بأمره والذي يأمر الجيش والشعب فيلتزموا بالسمع والطاعة لمعاليه ، فهذا بكل تأكيد "نزق" سياسي غير مقبول ، ومراهقة ثورية لا يحملها الواقع بأي مقياس ، ولن يسمح به له أحد ، وأولهم شركاء الثورة ، فالثورة التي انتصرت أصبحت الآن ملكا للشعب المصري ، وقد صنعناها وفجرناها من أجل أن نقول للشعب المصري : كسرنا الأغلال وأسقطنا الطاغية وأطلقنا لك الحرية ، فلتتقدم وتعلن عن اختيارك وتصنع مستقبلك بنفسك ، بإرادة حرة لا وصاية لأحد بعدها على اختيارك وقرارك . لم تتفجر ثورة يناير لكي نأتي بدكتاتوريات جديدة بديلا لدكتاتورية مبارك ومجموعته ، أو نعيد تهميش الشعب وصوته وإرادته ، لم تقدم ثورة الشعب المصري كل هذه التضحيات ولم يخرج الملايين في الميادين والشوارع من أجل أن نسقط الحزب الوطني الاستبدادي الذي فرض وصايته على مصر وشعبها ، ثم نأتي بنسخة أخرى بديلة للحزب الوطني لكي تفرض وصايتها هي الأخرى على مصر وشعبها وقواها السياسية المختلفة ، والذين يستسهلون الآن إعادة انتاج خطاب الحزب الوطني التقليدي الذي يتحدث عن إرجاء الديمقراطية لأن "بعبع" الإسلاميين سوف يأتي إلى السلطة ، ويحاولون إرسال نفس الخطاب التخويفي والترهيبي للمجتمع الدولي الذي كان يستخدمه مبارك ، هم في الحقيقة يعيدون إنتاج نفس الخطاب الاستبدادي القديم ، ويعيد طباعة نفس بيانات ورؤى لجنة سياسات الحزب الوطني ، وهؤلاء يحرقون أنفسهم سياسيا وأخلاقيا أمام أبناء وطنهم ، وأمام المجتمع الدولي أيضا ، الذي أصبح مقتنعا بضرورة مشاركة الإسلاميين في أي مشروع سياسي رسمي الآن ، طالما احترموا قواعد الديمقراطية ، سواء في مصر أو أي بلد عربي آخر ، لأن الحراك الشعبي المستمر برهن على أنهم قوة شعبية رئيسية يستحيل تجاهلها أو تهميشها إلا إذا كنت تفكر في تجاهل أو تهميش المشروع الديمقراطي بكامله . الوعي المبكر لقطاعات واسعة من الشباب المصري وقوى الثورة الحقيقية تجاه ذلك كله ، قطع الطريق على "نزق" البعض ممن كانوا يفكرون في تحريك مطالب "فئوية" بغلاف سياسي يوم الجمعة المقبل ، مثل الحديث عن مجلس رئاسي مدني مؤقت أو تأجيل الانتخابات أو الانقلاب العلني على الاستفتاء الدستوري الأخير وإعلان رفضه ، وهي سقطة أخلاقية مشينة لا تليق بأي وطني يحترم شعبه ناهيك عن أن يكون ثائرا في الوقت الذي يحتقر فيه إرادة شعبية موثقة بملايين الأصوات حققت ما يقرب من 80% بين الناخبين في تصويت حر تصارعت فيه الآراء بكل قوة وانفعال وجدل رهيب عبر الفضائيات والصحف والمنتديات المختلفة ، ثم يأتي شاب نزق ويقول أن إرادة 20% هي التي ينبغي أن تفرض نفسها ، ويسمي نفسه ثائرا ، وديمقراطي أيضا!! . على هؤلاء أن يدركوا أنهم الآن لا يواجهون حاكما أو زعيما أو ديكتاتورا ، وإنما يواجهون الشعب نفسه وهو في عنفوان ثورته وإبائه ، فإما أن يتحالفوا مع هذا الشعب ويرضوا بحكمه وينصروا أشواقه للديمقراطية والاستقرار والتنمية ، وإما أن يتحالفوا من الشيطان ، المحلي أو الأجنبي ، وفي المحصلة يخسرون . [email protected]