ككل اللحظات الفاصلة في تاريخ الأمم، تحتاج مصر القادمة إلى مشروع وطني كبير، مشروع وطني بحجم مصر: الدولة والتاريخ والكيان والمكان والمكانة، مشروع وطني يشكّل الحلم والرؤية والمستقبل والمصير، ويشكّل الممر الآمن لمرحلة النهضة. نجحت ثورة يناير في إحداث القطيعة مع نظام مبارك الاستبدادي، وتغمر الناس العاديين سعادة على ما حققوا من إنجاز رغم ما يشوب المرحلة الحالية من تحديات واختلاط وتتداخل. نجحت ثورة يناير وعبرت مرحلة المائة يوم الحرجة في تاريخ الثورات، كان هاجس الثورة المضادة لا يزال يقلق البعض، وكان شعور البعض أن فلول النظام السابق لا زالت تقاوم مثار الكثير من التخوفات. نجحت ثورة يناير وأصبحت واقعًا على الأرض وإن كانت مصر ما بعد الثورة لا زالت تدفع فواتير من الارهاق والاستنفاد لمواردها على جميع المستويات، ولا زالت تسدد في ديون عصر من الظلم والضياع، كأن كل الأبواب المغلقة قد فتحت في وقتٍ واحد، أينما يممت وجهك وجدت مشكلة كبرى وظلم متراكم من سنين، والذين صبروا سنينا طويلة ليس من الانصاف أن نطالبهم بمزيد من الصبر، ولكن هكذا تداعيات الأمور، وهكذا طبيعة المراحل الانتقالية. نجحت ثورة يناير وفرضت شرعية جديدة على المجتمع، حالة عامة من الرغبة في التطهر والارتقاء للمستوى الحضاري الذي ظهرت به الثورة وظهر به جموع المصريين. لكن لا زالت مشكلة غياب الأمن بالمعنى الحقيقي تشكّل هاجسا لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن إحداث نهضة حقيقية في غياب الأمن بمعناه الشامل. ولا زال التردد وعدم الحسم في أمور كثيرة باديا على من بيدهم مقاليد إدارة الدولة، حتى غدا السؤال الذي يتردد كثيرًا بين قطاعات واسعة من النخبة وكثير من الناس العاديين: إلى أين نسير؟ وربما لم يكن السؤال خطيرا في ذاته، ولكن بقدر ما يشكّل افتقادً للبوصلة، وحينما تكثير أسئلة المسير والمصير فأعلم أن هناك خلالا بحجم الأسئلة المشرعة. صحيح أن الله قد أكرم هذه البلاد بثورة بيضاء لم ترق عقب نجاحها دماء، ولا دماء الظالمين لكن تظل البوصلة غائبة وتظل الرؤية الشاملة المستوعبة لمقدرات البلد وأزماتها مفتقدة. واشتكى الكثيرون من أن زمن "الطبطبة" قد يودي بمصير البلد، وكتب كثيرون أن إدارة البلد بمنطق المساومات يضرها (وأن هذا ما كان يفعله النظام السابق) وأن القانون يجب أن يكون السيّد والحَكَم على الكبير والصغير وعلى الغني والفقير. مصر تنفض عنها غبار سنين طويلة من الظلم وتلاشي الدور وضياع الهيبة في الداخل والخارج، وهي لا تنهض إلا بمشروع وطني كبير يعبر بها إلى زمن الإنجاز. ولا زال "مستقبل البلد" هاجس يسيطر على كثير من المصريين وهم في ذلك محقين، ففي القضية الواحدة تجد عدة تصريحات مختلفة (قضية أحداث إمبابة مثالا) وجدنا تصريحا للمجلس العسكري وتصريحا لرئيس الوزراء وتصريحا لوزير العدل. صحيح إنها مرحلة انتقالية إنما على الأقل يجب أن تعرف الناس كيف تسير الأمور، لذلك لا حل إلا بسيادة مفاهيم القانون والدستور والشفافية والمحاسبية (أركان الحكم الرشيد في إدارة المجتمعات والدول). واعتصامات الأقباط (وغيرهم) أمام ماسبيرو تطرح تساؤلا مشروعا: هل ثمة عودة لأسلوب ليّ الذراع الذي يتبعه البعض؟ أو أسلوب التهييج والإثارة الذي يتبعه البعض الآخر؟ هل ثمة عودة لأسلوب المساومات والمقايضات الذي أضاع البلد حينما رهنها مبارك لمشاريع شخصية، ورهنها إبناه (تحديدا جمال) لطموحات أشد شخصانية؟ نجحت ثورة يناير إنما لا زالت كثير من نخب النظام السابق تعيث في الأرض فسادا إن على صعيد التصورات وإشاعة الأفكار المدمرة أو على صعيد الممارسة الأشد تدميرا. اختفى جهاز أمن الدولة (الحمد لله) ورجع في ثوب جهاز الأمن الوطني بنفس الضباط وبنفس العقلية (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فما الذي يضمن عدم عودة نفس الأساليب القديمة في نزع الاعترافات وتلفيق التهم والقضايا. لا شك أن المراكز العليا لإدارة الدولة المصرية واقعة في معضلة "تنازع الواجبات الوطنية" تنازع ما بين واجب حل المشكلات المتراكمة من سنين ومحاولة حلحلتها، وبين واجب النظرة المستقبلية التي تفرض الإعداد لنهضة حضارية تعيد للإنسان المصري مكانته في الداخل والخارج بما يشكل رافعة للمجتمع والدولة. وأحسب أن توازنا بين الواجبين تفرضه ضرورات المرحلة ومقتضياتها. تحتاج مصر في لحظات التحول التي تحياها إلى مشروع وطني جامع يشد جميع أفراد المجتمع نحوه، مشروع كبير يشكل الحلم والرؤيا والطموح، يجعل كثير من الناس تتجاوز إحباطات ماضي كئيب، وواقع عسر، ومستقبل يكتنفه الغموض. آخر كلام: صحيح أننا لم نعد في عصر الزعامات الآسرة ولا القيادات الكاريزمية إنما أحسب أن مصر في حاجة لعقل إستراتيجي أو عقول إستراتيجية (وهي غنية بها، ومصر ولاّدة) تضع معالم المشروع الوطني الذي يشكل "إستراتيجية العبور الآمن" من المرحلة الانتقالية لمرحلة النهضة. ومع يقيني الشديد أن التجارب الاجتماعية لا تستنسخ (لا تصدر ولا تستورد) أحسب أن مصر ما بعد الثورة تحتاج إلى قراءة واعية في كتاب: "العمق الإستراتيجي" للخوجة أحمد داوود أغلو (وزير الخارجية التركي). مصر ما بعد الثورة تحتاج إلى إستراتيجية: (تصفير المشكلات) وتبريد مناطق الأزمات.