منذ بدء الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979 أخذت السياسة الإيرانية تعمل على تحقيق مكاسب إقليمية هدفها تحويل إيران إلى دولة عظمى في محيطها، فتبنت في الأشهر الأولى لتأسيس الجمهورية مبدأ تصدير الثورة الإسلامية إلى دول المنطقة بشكل صريح أو مستتر، وهذا ما أكد عليه الإمام روح الله الخميني، وكان من الأسباب الرئيسية للحرب الإيرانية العراقية التي أنهكت البلدين. وتشكلت في ذلك الوقت قناعة لدى قيادة الثورة الإيرانية بأن الظروف والشروط الموضوعية المتوفرة لدى الدول المجاورة وخاصة العراق نضجت لقيام ثورات مماثلة. وقبل سنوات قليلة أكد الرئيس محمود أحمدي نجاد من جديد، وصرح بالفم الملآن أن إيران دولة إقليمية عظمى، وعلى جميع الدول الإقليمية والعالمية أخذ ذلك باعتبارها عندما تقرر سياساتها في الشرق الأوسط أو عندما تمارس هذه السياسة. خلال ستين عاماً من تأسيسها لعبت إسرائيل دوراً فعالاً في شؤون المنطقة ورسم حاضرها ومستقبلها، مستخدمة القوة العسكرية والمساعدة الأميركية والأوروبية السياسية والاقتصادية، وفرضت هيمنتها على دول المنطقة، وألزمت دول العالم ومنظماته الإقليمية بما فيها الدول الكبرى أن تعترف بالنفوذ الإسرائيلي وتأخذه بالحسبان عند وضع سياساتها الشرق أوسطية. ونجحت إسرائيل في تحقيق هدفها نجاحاً كبيراً عززته في عدواني 1956 و 1967 وفي توقيع معاهدة السلام مع مصر والأردن، ومن خلال حملات التأديب العسكرية وغير العسكرية التي كانت تشنها ضد العرب. ومنذ أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا أعلن أن لتركيا مجالها الحيوي الذي لا تستغني عنه في بلدان المنطقة، كما لها مصالحها فيها، وكانت السياسة التركية تشير خاصة إلى دول وسط آسيا (ومعظمها ناطق بالتركية ومن أصول تركية) وإلى البلدان العربية والبلدان الإسلامية، معتمدة على إرثها الثقافي والديني وعلاقاتها التاريخية مع هذه البلدان . فضلاً عن قوتها الاقتصادية. وعبرت السياسة التركية عن ذلك بإقامة علاقات جيدة ومتعددة الجوانب مع سورية والعراق، وحاولت الوساطة بين الفئات اللبنانية المتصارعة، وعرضت وساطتها على القوى السياسية في مصر أثناء ثورة يناير، وكذلك على القوى السياسية في تونس خلال انتفاضتها، وأخيراً على القوى السياسية في ليبيا، وذلك كله من خلال قناعتها بإمكانياتها متعددة الجوانب وموقعها الاستراتيجي، ودورها في حلف شمال الأطلسي وشراكتها العسكرية مع دول هذا الحلف الأوروبية والأميركية، خاصة وأنها عضو فيه، وقد كانت مثيرة للانتباه في الأسابيع الأخيرة تصريحات رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي عندما أعلن أن لتركيا مصالح في سورية لا تستطيع تجاهلها. وكانت هذه التصريحات العلنية غير استثنائية في إطار العلاقات الإستراتيجية بين البلدين وتتناسب مع درجة التحالف التي وصلا إليها. ما يستحق الانتباه أن الجميع (من دول المنطقة غير العربية) طامعون بالبلدان العربية ولديهم الرغبة إما في تطويعها سياسياً أو الاستفادة منها اقتصادياً، أو في لي أذرع أنظمتها السياسية ووضعها تحت الهيمنة أو ما يشبه الهيمنة، بما يشير إلى ضعف البلدان العربية من جهة والاستهانة بمواقف أنظمتها وتياراتها السياسية ومصالحها من جهة أخرى، وكأن هذه البلدان نهب لمن يرغب في النهب وأملاك سائبة تسوغ ملكيتها للأقوى والأنشط. كانت مصر خلال التاريخ تشكل العمود المحوري والأساس الصلب الذي يقوم عليه البناء العربي، وكلما قويت مصر تاريخياً وتحملت مسؤولياتها كلما التف حولها العرب، وجنحوا إلى التمسك بمصالحهم وتحقيق أهدافهم. وقد حصل ذلك أكثر من مرة ، منها ما تحقق في التاريخ الوسيط عندما صدت مصر الاجتياح المغولي ورحّلت الصليبيين نهائياً واستكملت تحرير البلاد العربية منهم، أو ما أنجزه محمد علي باشا في التاريخ الحديث عندما أقام نواة للوحدة العربية أرعبت الغرب الأوروبي، أو أخيراً ما تحقق في التاريخ المعاصر بعد ثورة 1952 بزعامة جمال عبد الناصر. حيث حرر العرب بمساعدة مصر معظم بل جميع بلدانهم من الاستعمار الأوروبي، وأصبحوا قوة عالمية هامة، وكانت مصر دائماً هي القوة الإقليمية الرئيسية والمحورية و(عمود البيت) القادرة على احتلال موقع عالمي يتناسب مع إمكانيات العرب وقوتهم الصاعدة وخاصة في أفريقيا وفي دول عدم الانحياز، وفي السنوات الأخيرة، وبعد أن تراجع دور مصر العربي والإقليمي إلى حده الأدنى، وخسرت بسبب سياسة نظامها السابق زعامتها وتأثيرها في المنطقة، وتجاهلت عمقها ومجالها ومجال العرب الحيوي، فقد حصل الفراغ وأتيحت اللحظة المناسبة للدول الإقليمية غير العربية كي تحاول أن تملأ هذا الفراغ وتتسيّد على البلدان العربية، ولم تجد، لسوء الحظ، أية عقبة في طريق تحقيقها لأهدافها الإقليمية هذه. تمر مصر الآن بمرحلة انتقالية، وتقف على أبواب العودة للعب دورها التاريخي وريادتها العربية وقيادتها للمسيرة عامة، وإعادة العرب إلى التضامن والتعاون والعمل المشترك، وهي وإن كانت مشغولة إلى حين بترتيب أمورها الداخلية ووضع هيكلية جديدة لنظامها السياسي ودولتها، فالأمل أنها عائدة لاشك بعد أن تنهي هذه المهمة، حيث لا خيار أمامها سوى العودة للقيادة والريادة، ليس فقط استجابة لمسؤولياتها القومية بل أيضاً لمصالحها الداخلية، وعندها ينبغي على الدول الإقليمية الأخرى المستقوية على العرب بضعفهم وغياب مصر، أن تضع أسساً جديدة لسياسات إقليمية جديدة تحسب من خلالها حساباً للمصالح العربية أيضاً، وتنتهي بذلك المهانة العربية والاستهانة بالعرب وقدراتهم ومصالحهم، ومن البديهي أنه كلما تقدمت مصر خطوة في إقليمها تراجع الآخر خطوتين.