لا أستطيع أن أخفي مشاعر الفرحة التي غمرتني مثل ملايين المصريين بالأخبار التي تواترت عن المحاكمة التاريخية المنعقدة للرئيس السابق حسني مبارك وأسرته ، فضلا عن صدور قرار بحبسهم على ذمة التحقيق ، أسباب تلك السعادة كثيرة ، لكن أبرزها على الإطلاق هو حالة الترقب التي عشناها جميعا قبيل تلك المحاكمة والتي بلغت ذروتها بعد سماع الخطاب ال " بن لادني " للرئيس السابق والذي تسبب في حرق دم المصريين وإثارتهم على صاحبه عكس ما أُريد له ، وكما يحدث في الروايات المثيرة ، فقد انحبست الأنفاس من الإثارة والتشويق حتى جاء قرار النائب العام بتحويل الرئيس السابق ونجليه للمحاكمة ثم الحكم بحبسهم على ذمة التحقيق. في تاريخ مصر المعاصر لم تُعقد محاكمة لأي حاكم سابق ، فقد قام الاحتلال البريطاني بترحيل حاكمين اثنين دون محاكمة هما الخديوي اسماعيل والخديوي عباس حلمي الثاني ، كما غادر الملك فاروق مصر سالما وبحفل وداع رسمي بعد انقلاب عام 1952، لكن ما فعلته ثورة الخامس والعشرين من يناير من خلع للرئيس ثم محاكمته لم يكن له سابقة لا في مصر ولا في المنطقة على الإطلاق. ما يهمنا في هذا الشأن ليس أن نبث مشاعر الشماتة فهي ليست من أخلاقنا ، ولا الاكتفاء بالتعبير عن فرحتنا فحسب ، ما أود إلقاء الضوء عليه هو المعنى الرمزي لمحاكمة الرئيس السابق وزمرته ودلالات ذلك من عدة أوجه ، أوجزها في الرسائل التالية: 1. رسالة للشعب المصري الذي خرج في الخامس والعشرين من يناير لاسترداد بلاده من مغتصبيها وناهبيها بإعلان نهائي بنجاح ثورته وعبورها أدق مراحلها ، وإيذان بإرادة سياسية أكيدة في بناء مصر الجديدة على أساس راسخ من العدل والمساواة واحترام القانون ، دليل ذلك أن رأس النظام صار رهن التحقيق والمحاسبة وبالتالي فإن كل ما عداه أهون. 2. رسالة واضحة لا لبس فيها لمن تحدثه نفسه أن يكون رئيساً لمصر أن يعلم أنه قد اختار أن يعيش في دائرة المراقبة والمحاسبة الدقيقة والدائمة، ليس هو فحسب ، بل هو وأسرته وجميع أقاربه ومعارفه ،فلا يفكر في إساءة استغلال منصبه ، ولا التربح من وظيفته ، ولا مجاملة أحد على حساب مصلحة الوطن ، فسوف يأتي اليوم الذي تُفتح فيه الملفات للتحقيق والحساب ، فإن الشعب الذي حاكم من كان يوماً رئيساً لمدة ثلاثين عاما ، هو بالتاكيد أقدر على أن يحاكم من يخلُفه. 3. رسالة للوزراء والمسؤولين في جميع الوزارات والأجهزة التنفيذية بعدم تبرير أخطائهم بالقول المأثور " بناء على تعليمات السيد الرئيس" ، لقد ولّى هذا الزمان بغير رجعة ، فأنتم والسيد الرئيس تحت مقصلة الحساب والمحاكمة متى خالفتم مهام وظائفكم ، وما سجن طرةَ منكم ببعيد. 4. رسالة للمنافقين من الإعلاميين والمثقفين الذين يشبهون الكائنات الطفيلية فيصعب عليهم العيش دون منافقة المسؤولين والتزلف لهم وتبرير أخطاءهم ، بأن يُعملوا عقولهم وضمائرهم قبل ركوب موجة المدح والثناء لكل مسؤول سواء استحق ذلك أم لا، فقد تتغير الصورة وتتبدل المشاهد ويصبح الحاكم بأمره اليوم قيد التحقيق والحبس غداً ، وساعتها سوف تكون في موقف لا تحسد عليه ، وقد تكون مخيراً ما بين الاختفاء عن الأنظار والجلوس في البيت مثل مذيعي برنامج مصر النهاردة وصحفيي الأهرام التعبيريين وغيرهم ، أو استقبال لعنات المصريين كل صباح بوجه مبتسم وهو ما لا يستطيعه إلا أولو العزم من الأفاكين. 5. رسالة لفلول النظام البائد وأذنابه والمنتفعين به في كل موقع بضياع آخر أمل في إفشال الثورة والارتداد بمصر إلى الوراء ، لقد سقطت آخر ورقة تعلقوا بها ، وعلى كل منهم أن يبدأ صفحة جديدة من حياته يعتمد فيها على كفاحه وعمله بدلا من الاعتماد على علاقته بمسؤول أو قرابته لآخر. 6. وأخيرا رسالة للشهداء الأبرار الذين روّت دماؤهم أرض ميدان التحرير وجميع ميادين الحرية في مصر، لم تذهب دماؤكم هباء ولم تضع سدىً ، لقد ألهمتنا دماؤكم خارطة الطريق للخلاص من فرعون وجنوده ، وها نحن اليوم نتنسم عبير الحرية بفضل الله عز وجل ثم بفضل دمائكم الزكية ، ولم يبق لنا سوى القصاص لكم ممن اغتال شبابكم وأحلامكم لنشرع في بناء الوطن الذي سالت دماؤكم الطاهرة من أجل عزته ورفعته. إن رؤيتنا لهذا الجمع من المسؤولين والوزراء والنافذين تحت سقف زنزانة واحدة هو أمر يدعونا جميعا للتفاؤل بمستقبل الوطن ، فضلا عن كونه علامة فارقة في تاريخ مصر وربما تاريخ المنطقة بأسرها ، ورغم أنني كما أكدت سابقا لا أحب وليس من طبعي أن أشمت بأحد ، ولكن طبيعة الموقف تدفعني دفعاً لأن أهتف بكل قوة ... "كفّارة يا ريّس". [email protected]