لقد كان أمراً مُرَّاً؛ ألا يظفر الصياد العجوز بأية سمكة طوال أربعة وثمانين يوماً. لقد ساءت سمعته بين الصيادين. ولكن راوده الأمل في ذلك اليوم بأن الحظ سيعود ويطرق بابه، وعليه أن يصمم على أن يصيد في محاولة أو مغامرة جديدة، بعيداً وراء المنطقة التي اعتاد غيره الصيد فيها، في محاولة لإثبات الذات، ولإعادة كبرياءه كرجل له تاريخ، وأن يتوغل وحيداً؛ حيث منع والديّ صديقه الغلام من الصيد معه منذ أربعين يوماً، خشية عليه، وتشاؤماً من صديقه ومعلمه العجوز. وبعد أيام من التعب المضني، حصل على السمكة التي كانت في أضعاف حجم مركبه، وبعد معركة عظيمة معها، تأخذ الجزء الأكبر من السياق، نجح في ترويضها وإضعافها ثم إماتتها، وسحبها وراءه في سعادة. وفي الطريق خرجت عليه جماعات من سمك القرش، وبعد مقتلة رهيبة معها، وصراع طويل، استطاعت هذه الجماعات المهاجمة من تمزيق سمكته. ووصل الشاطئ، ولم يبق من سمكته إلا هيكلها العظمي. وخلع العجوز الصاري من مكانه، وطوى شراعه، وحمله على كتفه ومضى إلى كوخه وهو يتمايل، وهناك يتمدد فوق فراشه وينام. وجاءه الغلام بالطعام والقهوة وجلس يراقبه، ويقول لمعلمه: يجب أن تسترد عافيتك سريعاً، فهناك الكثير الذي أستطيع أن أعلمه، ويمكنك أن تعلمني كل شيء، وإلى أي مدى عانيت؟!. ذلك هو مجمل قصة رائعة من الأدب العالمي؛ وهي (العجوز والبحر) للكاتب الأمريكي (أرنست هيمنجواي)، والحائزة على جائزة (بوليتزر) عام 1952م، وجائزة (نوبل) في الآداب عام 1954م. ولهذا فلقد كثرت آراء النقاد حول هذه القصة؛ فمنهم من صور صراع الصياد مع القرش، على أنه يمثل حياة الكاتب وصراعه مع نقاده وخصومه، ومنهم من حلل القصة، على أنها تمثل الصراع الإنساني في الحياة، ومنهم من حللها على أنها تمثل صورة من العلاقة المنشودة بين خبرة الشيوخ وحماسة الشباب. لماذا تضيع ثمرتنا؟!: ولكننا وبقراءة معاصرة؛ من خلال مرحلتنا وواقعنا الآن؛ نجدها تجيب عن إشكاليتين خطيرتين: الأولى: لماذا تضيع الثمرة من الإسلاميين دوماً سواء على المستوى الفردي أو الجماعي؟!. الثانية: لماذا تسرق الثورات من أصحابها؟!. الصياد ... ومراحل الطريق الخمس: ولنتأمل ما صنعه الصياد للحصول على سمكته؛ وكيف ضاعت منه؛ ونقارنها بالمراحل التي سار عليها الإسلاميون في مشاريعهم، وتبعها الثوار في مسيراتهم الثورية: المرحلة الأولى: مرحلة القراءة الصادقة للواقع: وهي التي يمثلها في القصة؛ رؤية الصياد لوضعه بعد هذا السن والتجربة، وفشله في الصيد. وهي المرحلة التي تمثل نقطة البدء في الانطلاقة الفردية أو الجماعية، نحو أي هدف. وهي تمثل ضرورة القراءة العميقة للواقع؛ وذلك في محاولة جدية لتشخيص الداء ووصف الدواء. وأي حركة فردية أو جماعية لا تقوم على استقراء للواقع؛ تعتبر حركة بلا قواعد، أو بنيان بلا أساس. ولعل أن من أبرز عوامل انفجار ثوراتنا المصرية والعربية؛ هو القراءة الجيدة للواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية و..، وما وصل إليه حال البلاد من فساد وقهر وتزوير وكبت للحريات. حيث عاشت أمتنا مرحلة كريهة امتدت طوال عقود الحقبة الثورية التقدمية؛ فخلط ثوارنا بين المرحلة الثالثة وهي الملك العاض أي التوريثي بالمرحلة الرابعة الجبرية أي الحكم الدكتاتوري الاستبدادي؛ كما جاء في الرؤية الاستشرافية للحبيب صلى الله عليه وسلم حول المراحل الخمس التاريخية للأمة: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت". [مسند أحمد بن حنبل] فكان الحل لهذا الواقع البئيس القهري؛ هو ضرورة التغيير. المرحلة الثانية: مرحلة الانطلاق: وتأمل الأهداف التي وضعها الصياد للانطلاق؛ لقد قرر أن يقوم بمحاولة غير تقليدية، ومغامرة لا يقوم بها إلا من له تاريخ؛ فيقتحم ما لم يقتحمه من سبقه، وذلك لإثبات ذاته، ولإعادة كبرياءه كرجل له تاريخ. وهي المرحلة التي تبين مرتكزات التحرك نحو الغاية؛ فيجب أن تؤخذ بعين الاعتبار؛ أن تكون مبنية على أساس استقراء الواقع، ومحددة الأهداف والغايات، وعلى معرفة الإمكانيات الذاتية، والقدرات المتاحة. ولذلك فإن كان الصياد قد فقه ظروفه ووضعه، وقرر التحرك نحو غاية معينة. ولكن يؤخذ عليه؛ أنه سار نحو تلك الغاية الجديدة بنفس القارب المتواضع، ولم يصاحبه الغلام. أي سار نحو غاية غير تقليدية، بإمكانيات تقليدية، بلا جديد أو أبداع؛ بل ويبدو فيها بعض القصور. فالنمطية في التفكير هي الغباء بعينه كما يقول أينشتين: (تعريفي للغباء؛ هو أن تداوم على فعل نفس الأشياء، بنفس الطريقة، وتتوقع أن تحصل في كل مرة على نتائج مختلفة!؟). ولعل من أسباب نجاح ثوراتنا أنها جاءت مفاجئة لكل المراقبين بل لمفجريها وداعميها؛ فأتت بآليات مبدعة ومبتكرة؛ خاصة في حسن استخدام آليات تقنية الاتصال الاجتماعي الحديثة بما فيها الشبكة العنكبوتية (الأنترنت) والفضائيات؛ وأنها جمعت الأمة بجميع شرائحها المجتمعية والدينية تحت هدف واحد؛ وهو ضرورة التغيير بإسقاط النظام. المرحلة الثالثة: مرحلة الصراع للحصول على الثمرة: وهي تتمثل في صبر وقوة احتمال الصياد وهو يسير وحيداً بثقة إلى المكان الجديد. وهي المرحلة التي تصور الصراع وأشكاله المنوعة في سبيل الحصول على الهدف. وتعتبر هذه المرحلة، هي المحور أو الجزء الأكبر والأطول والأكثر متعة من القصة. وهذه المرحلة على المستوى الفردي أو الجماعي، هي المرحلة الأصعب ولكنها على صعوبتها يكون لها من الميزات الكثير حيث تكون القوى الفردية أو الجماعية في أشد عنفوانها، لما لها من خاصية التحدي، والنظر دوماً إلى الغاية، لذا فإن البذل وإن شاقاً ولكنه يبدو لذيذاً. وهي من أخصب الفترات تربوياً؛ فهي التي لا يثبت فيها إلا الرجال. ولعلنا قد عايشناها ورأيناها في يوميات ثورة مصر في أيام ميدان التحرير الثمانية عشرة؛ بل وفي كل أيام الجمع التالية؛ لما لها من تأثير قوي؛ حيث نرى كل الأمة مجتمعة متحابة ومتعاونة لتحقيق هدفها. لذا فمن حضر هذه التجمعات والتظاهرات والاعتصامات هو الذي يستشعر هذه المعاني الراقية. ولم نزل نعايش بقية ثورات أمتنا التي تحركت وثارت واعتصمت في أكبر ساحاتها وميادينها. المرحلة الرابعة: مرحلة الحصول على الثمرة: وتأمل مدى النشوة التي أخذت العجوز، وهو يرى الحبال تنجذب بقوة فيتخيل حجم ونوع السمكة. وهي المرحلة التي تصور السعادة الغامرة التي تصاحب الوصول إلى الهدف، أو اقتطاف ثمار النصر. وهي اللحظات التي يستشعر فيها الفرد أو الجماعة، مدى السعادة عندما تطأ الأقدام الغاية. وكلنا عشنا هذه اللحظة التاريخية وصرخنا؛ كما صرخ هذا الصياد العجوز في ميدان التحرير لحظات سقوط وخلع الطاغية. وتأملوا هذه النشوة التاريخية العارمة التي صورها هذا المواطن التونسي الذي خرج يصرخ أن طاغية تونس هرب!؟. وهي لحظات قليلة؛ لأنها لا تدوم طويلاً، وتصبح مهددة من قِبَل تحديات ومشكلات المرحلة الأخطر والأصعب وهي المرحلة الأخيرة. وهي التي تعتبر من أقسى منعطفات الطريق؛ فقد تُنسي هذه النشوة مدى توابع ذلك النجاح. فكثير هم الذين يجيدون فن تناوش الثمرة، والقليل هو الذي يجيد فن المحافظة عليها. وملفات التاريخ وأحداث الواقع تفيض بالتجارب الكثيرة لمن نجح في الوصول إلى قمة الجبل. ولكنه يسقط لأنها قمة ولا تتسع إلا للقليل!. المرحلة الخامسة: مرحلة الصراع لحماية الثمرة: وهي المرحلة التي أخذت الحجم الثاني بعد مرحلة الصراع في القصة. وإن كان الكاتب قد أبدع وتعمق في تصويرها؛ لأنها تتظلل بالأحداث المأسوية. حيث نعيش مع الصياد المخضرم (سانتياجو)، كيف يضيع حلمه الكبير منه، لحظة بلحظة!؟. وتنتهي بمأساة ضياع السمكة من بين أيدي الصياد العجوز الخبير. وهي أخطر المراحل؛ حيث تصور الصراع الرهيب والحنكة المطلوبة، في حماية الثمرة. وهي المحك الذي يظهر عمق التربية التي نشأ عليها المنتصرون، وهي مرحلة سقوط الأحلام. وهي المرحلة التي تعتبر العقبة الكئود، أمام تجارب الحركة الإسلامية مع الثمرة؛ وتجارب الثوار مع ثوراتهم؛ كما نعيشها هذه الأيام ونفرح بكل لحظة، ونتألم في كل لحظة، ونخاف في كل لحظة، ونشك في كل لحظة؛ ونتسائل كل يوم من أين سيهاجمنا آكلو سمكتنا من فلول النظام أو شياطين الثورة المضادة؟!. وهي بيت القصيد في قرائتنا المعاصرة؛ وذلك لأن معظم ظواهر النكوص، وأكثر أساب الخلل؛ بل إن أخطر الانتكاسات إنما تبرز فيها؛ حتى راجت مقولة: (الإسلاميون: بذل وتضحيات ولا ثمرة؟!). تعقيبات وترجيعات ... للبحث عن آكلي السمكة: ومن خلال ظلال القصة، تبرز تلك التساؤلات التي تحتاج إلى دراسات جادة، من أجل الإجابة عليها!. وتحتاج إلى صياغة معينة وتربية خاصة من أجل محاولة العلاج!. ومن هذه التساؤلات؛ والتي سنحاول من خلالها استقراء وتحليل أسباب ضياع سمكة الصياد؛ واللبيب هو؛ بل هو فقط هو الذي يفقه مغزى هذه التساؤلات: أولاً: هل أخطأ الصياد، عندما توغل وحيداً؛ دون مساعدة من أحد؟!. فهل كان عيباً، أو نقصاً في عقليته؛ أن يطلب المعاونة والتنسيق مع غيره، فجنى حظه من انفراديته؟. ثانياً: هل كان حظه أن السمكة كانت أكبر من حجم قاربه؟!. هل كان خطأ الصياد أن حلمه كان كبيراً؛ أي أن الهدف كان أكبر من الإمكانيات؟. ثالثاً: هل كان الخطأ أن التجربة مثلت تجربة الشيوخ ذوي الخبرة ولم تمتزج بحماسة الشباب، حيث لم يخرج معه الغلام؟. وهل كان يشفع له أنه كان خلال تلك المرحلة، يصيح مرات مفتقداً تلميذه الغلام؟. رابعاً: هل كانت مشكلته أن والدي الغلام رفضا خروج ولدهما معه، تشاؤماً من حظ أستاذه العاثر؟!. هل كانت مشكلته أن هذين الوالدين، وكذلك الجيران الذين استهزأوا به؛ فلم يشاركوه ألمه وقضيته!؟. أي أن العيب كان فيه وفي انعزاله عن جماهير الصيادين حوله!!!. خامساً: هل كان الخلل الأكبر في فشله هذه المرة، كان مرجعه الأساسي إلى الظروف المحيطة والعوامل الخارجية؛ مثل البداية السيئة؛ وهي عدم المشاركة الجماهيرية؛ فتركوه وحيداً يصارع من أجل حلمه الكبير، ومثل النهاية المأسوية؛ حيث الهجوم الرهيب من أسماك القرش؛ الذين التهموها بقسوة!. ولم يك مرجعه إلى العوامل الداخلية والأسباب الشخصية؛ التي ألمحنا إليها في التساؤلات السابقة؟!. وتأمل حواره الحزين الأخير مع غلامه وتلميذه المخلص (مانولين)؛ وهو يراجع أخطاءه، وينتقد تجربته: لقد تغلبوا عليّ يا (مانولين)!. حقاً لقد انتصروا عليّ!. فقال الصبي: إن السمكة لم تهزمك!. - حقاً، ولكن حدث ذلك فيما بعد!. أملٌ لا يغيب ... ورصيد فاعل!: ولكن؛ تبقى التجربة ملك التاريخ؛ ورصيد للأجيال. حيث تصور نهاية القصة؛ بعض السائحين الذين سألوا معجبين عن صائد تلك السمكة العظيمة!. وكذلك؛ يبقى الأمل دوماً، ويبرز الثبات كضرورة وركن أساس في حركة العاملين على الطريق. ويبقى الشباب؛ هم الأمل والرصيد الحيوي، والقوة الدافعة الفاعلة في أي حركة تغيير!؟. وتدبر قول الغلام، في حواره الأخير مع أستاذه العجوز (سانتياجو)، وهو يعطي معلمه الأمل، ويصمم على مصاحبته في محاولة أخرى، تصحح الأخطاء، وتستدرك الخلل: يجب أن تسترد عافيتك سريعاً، فهناك الكثير الذي أستطيع أن أعلمه، ويمكنك أن تعلمني كل شيء، وإلى أي مدى عانيت؟!. - وماذا ستقول لأسرتك؟!. - لا يعنيني هذا!. - يجب أن نأتي برمحٍ قاتل قوي ... وتعيد القصة في كلماتها الأخيرة القليلة، منظر الصياد وهو يحلم بتجاربه السابقة، ويستعيد رصيده القديم، لقد كان يستعيد حلمه بالسباع والأسود، وكأني به يحاول إشعال فتيل الأمل بهذا الرابط الذهني والعصبي الذي يعطيه الثقة في نفسه؛ فالمعركة أو الصراع لا ينتهي بل هو جولات تلو جولات!؟. والإحباط ليس من شيمة الأحرار، واليأس ليس من شيمة المؤمنين بربهم، ثم بإمكانياتهم، ثم بغاياتهم. وبعد؛ فهل سنحافظ على ثورتنا ومشاريعنا؟. أم سنترك سمكتنا ليلتهمها قرش الطاغية المخلوع؟. د. حمدي شعيب E-Mail: [email protected]