منذ عدة عقود بدأت الدراسات الحديثة في التاريخ تتجه لعدم الإقتصار على التاريخ السياسي، وحتى مع تناول التاريخ السياسي أخذت تتجه إلى عدم الإقتصار على تاريخ الملوك والرؤساء والقادة والوزراء، بل بدأت تتجه لدراسة المواطن العادي وصولًا لرسم صورة أمثل لحركة التاريخ لا تقتصر على قمته ممثلة في الملوك والقادة، هذا الإتجاه الحديث في الدراسات التاريخية أطلق عليه (التاريخ من أسفل) لتمييزه على تاريخ الملوك والقادة (التاريخ من أعلى).
وسمح هذا الإتجاه للباحثين في مصر والعالم للتنقيب في أرشيفات المحاكم والدواوين العمومية وكتابات العامة ورسائلهم وغيرها لتتبع حياة الأفراد العاديين ونظرتهم للأمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها، ولقد نما هذا الإتجاه وواكبته المدرسة التاريخية المصرية كما يظهر في سجل رسائل الماجستير والدكتوراه في عدد من الجامعات المصرية في العقود الأخيرة.
وأظن أنه مع إنتشار وسائل التواصل الإجتماعي مثل الفيس بوك وتويتر والدور الهام الذي لعبته في الثورة المصرية فإنه يجب على بعض رسائل الماجستير والدكتوراه أن تتناول مسار الثورة لا من خلال العلاقات العلوية بين الساسة والقادة العسكرين وغيرهم، ولكن من خلال دراسة بوستات الفيس بوك وتغريدات التويتر للناشطين والأشخاص المهتمين من التيارات المختلفة، ولعله سيكون من المناسب لرسالة ماجستير مثلًا أن تتناول بوستات وتغريدات لسبعة أو ثمانية شباب ناشطين شاركوا في الثورة، أحدهم ليبرالي مثلًا والآخر سلفي تقليدي والثالث سلفي جهادي والرابع إخواني والخامس يساري والسادس رافض للثورة وميال للعهد القديم...وهكذا، وإجراء إحصائيات دقيقة لتلك البوستات وتصنيفها وتواترها عبر المنعطفات المختلفة لمسار الثورة، وظني أنها ستخرج بنتائج هامة.
ولقد خطر ببالي أن أقوم بتطبيق سريع لهذه الفكرة على نطاق ضيق، فأتابع بوستات الفيسبوك - ومنها التغريدات المنقولة من التويتر للفيس بوك – لإثنين من أصدقائي كلاهما من الثوار، أما حماده (أحمد)، وهو جاري وصديق العمر خاصة في الفترة الأولى حتى الجامعة وقبل أن تتباعد أراضينا ونطوف في البلاد، فهو ليبرالي وعضو ناشط في حزب الدستور ومن غلاة المدافعين عن البرادعي ومن الثوار الأوائل، وأما (مصطفى) فهو من أصدقاء الكلية الأعزاء، وكان ميالًا لليسار أيام الكلية، ومن الثوار ايضًا، وكلاهما من خريجي جامعة عين شمس، حماده دفعة 1998، ومصطفى يكبره بثلاث سنوات، قمت بدراسة إحصائية شاملة لبوستات الفيس بوك الخاصة بهما منذ تولي الرئيس مرسي لمهامه في 30 يونيو 2012 وإلى 10 إبريل الجاري، موعدنا اليوم مع حماده والمرة القادمة إن شاء الله مع مصطفى.
شملت الدراسة – المبسطة- تقسيم بوستات حماده –التي بلغت خلال تلك الفترة 706 بوستًا وتغريدة منقولة- إلى تصنيفات حسب تنوعها بلغت تسعة أنواع كالتالي: بوستات ناقدة لتيار الإسلام السياسي عمومًا، بوستات ناقدة للإخوان تحديدًا، بوستات ناقدة للحكومة، بوستات منصفة للخصوم، بوستات فيها نقد ذاتي، بوستات مؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور، بوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها، وبوستات سياسية عامة، وأخيرًا بوستات غير سياسية، وطبعًا هناك هامش للخطأ في التقدير بين الأنواع قد يصل ل3-5%، كما أنه – خاصة في الفترة الأخيرة – كانت هناك بوستات تجمع بين الهجوم على الحكومة الحالية وعلى الإخوان في نفس البوست، فبعض تلك البوستات قمت بعدها مرتين، فكأنها بوستان، أحدهما في النوع الناقد للحكومة والآخر في النوع الناقد للإخوان، سأبدأ بسرد النتائج الإحصائية ثم في النهاية أكتف بتعليق غير مطول عليها تاركًا للقارئ متسعًا أكبر لإستنتاجات قد تكون موافقة أو مخالفة.
في الفترة منذ تولي الرئيس مرسي لمهامه في 30 يونيو 2012 وحتى أصدر الإعلان الدستوري المثير للجدل في 22 نوفمبر 2012 وضع (حماده) على الفيس بوك 124 بوستًا كان بيانها كالتالي: بوستات ناقدة لتيار الإسلام السياسي عمومًا 13، بوستات ناقدة للإخوان تحديدًا 21، بوستات ناقدة للحكومة 9، بوستات منصفة للخصوم 9، بوستات فيها نقد ذاتي 2، بوستات مؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور 12، بوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها 10، وبوستات سياسية عامة 24، وأخيرًا بوستات غير سياسية 24.
ومنذ صدور الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر 2012 وحتى نهاية 2012 وضع (حماده) على الفيس بوك 79 بوستًا كان بيانها كالتالي: بوستات ناقدة لتيار الإسلام السياسي عمومًا 14، بوستات ناقدة للإخوان تحديدًا 30، بوستات ناقدة للحكومة 14، بوستات منصفة للخصوم 6، بوستات فيها نقد ذاتي لا يوجد، بوستات مؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور 1، بوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها 6، وبوستات سياسية عامة 7، وأخيرًا بوستات غير سياسية 1.
ومنذ بداية 2013 وحتى سقوط الرئيس في 3 يوليو من نفس العام وضع على الفيس بوك 209 بوستًا كان بيانها كالتالي: بوستات ناقدة لتيار الإسلام السياسي عمومًا 5، بوستات ناقدة للإخوان تحديدًا 103 (!)، بوستات ناقدة للحكومة 29، بوستات منصفة للخصوم 5، بوستات فيها نقد ذاتي لا يوجد، بوستات مؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور 13، بوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها 15، وبوستات سياسية عامة 25، وأخيرًا بوستات غير سياسية 14.
ومنذ العهد الجديد في 3 يوليو 2013 وحتى الآن وضع على الفيس بوك 294 بوستًا كان بيانها كالتالي: بوستات ناقدة لتيار الإسلام السياسي عمومًا 11، بوستات ناقدة للإخوان تحديدًا 81، بوستات ناقدة للحكومة (حكومة العهد الجديد) 61، بوستات منصفة للخصوم 12، بوستات فيها نقد ذاتي لا يوجد، بوستات مؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور 21، بوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها 22، وبوستات سياسية عامة 62، وأخيرًا بوستات غير سياسية 24.
من تلك الإحصائيات نستنتج ما يلي: - إجمالي البوستات المهاجمة للإخوان تحديدًا وبالإسم بلغ 235 بوستًا من 706 بوست، اي الثلث بالضبط !!. - في حين أن إجمالي البوستات المؤيدة للتيار الليبرالي وحزب الدستور بلغ 47، والبوستات مؤيدة للثورة داعية لمبادئها 53، ومجموعهما معًا 100 بوست !!. - اي أن عداءه للإخوان كان أكبر مرتين من جهوده لدعم الثورة التي شارك فيها والتيار السياسي الذي ينتمي إليه !!!. - في الفترة التي سبقت الإعلان الدستوري كانت البوستات السياسية المتفرقة (24) والبوستات غير السياسية (24) كلاهما أكثر من البوستات المعادية للإخوان (21)، بينما في الثلاث مراحل التي تلت الإعلان الدستوري لم يعد هناك شيئ يفوق العداء للإخوان، فتصدر هذا النوع – دون منافس- تلك المراحل التالية !!. - الفترة التي تلت الإعلان الدستوي كانت أكثر الفترات إختلالًا ًا في التوازن، إذ كادت البوستات غير السياسية أن تختفي، وقلت جدًا البوستات الداعمة لتياره السياسي ليفسح المحال للبوستات المهاجمة للرئيس وحكومته، والإخوان، والتيار الإسلامي عمومًا لتشكل تلك الأنواع الثلاثة 70% من إجمالي البوستات في تلك الفترة. - النقد الذاتي الذي كان محدودًا للغاية قبل الإعلان الدستوري إختفى بالكلية من بعده وإلى الآن !!. - وفي مقابل الإختفاء الكلي للنقد الذاتي للتيار السياسي والحزب الذي ينتمي إليه فإن البوستات التي تنصف الخصوم لم تختف كلية وإن قلت نسبتها من 7.5% عام 2012 إلى 2.5% في 2013 حتى سقوط مرسي ثم 4% منذ سقوط مرسي وإلى الآن. - وفي تكملة للإحصاءات، فمن ضمن هجومه على الإخوان صرح في 14 بوست معظمهم قبل 3 يوليو أن الإخوان قتلة، وأنهم قتلوا الناس يوم الإتحادية – الذي قتل فيه 10 معظمهم من الإخوان !، بينما في كل المذابح التي حدثت بعد 3 يوليو لم يصرح ابدًا مثلًا أن المارشال قاتل أو الشرطة قتلة أو غير ذلك ابدًا !!، إلا في بوست واحد قال فيه (إن العسكر يقتلون الناس ويقولون كذا والتيار المحافظ يقتل الناس ويقول كذا والفلول يقتلون الناس ويقولون كذا)، هذه هي الإشارة الوحيدة إلى ان العسكر قتلة، وأكتفى لمواكبة كل هذه المذابح بالبوستات العامة مثل (الدم كله حرام)، و(الدم المصري كله حرام)..إلخ، بينما وجه للإخوان كما ذكرنا في 14 مرة أنهم قتلة بسبب احداث الإتحادية، وهذا يدل أن الدم المصري ليس على سواء، وأن الإدانة بخصوصه تتفاوت سياسيًا على نحو مخيف !!.
كان هذا هو موعدنا مع التاريخ من أسفل، كنا مع حماده، والمرة القادمة موعدنا مع مصطفى.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.