نُشر على بعض وسائل الإعلام استقالة بعض الأعضاء من جماعة الإخوان,أو رغبة آخرين تأسيس حزب مستقل عن حزب الجماعة, وهذا الأمر ليس جديدا, إذ تكرر هذا الحدث على مدار تاريخ هذه الجماعة المباركة, ولعله من المناسب هنا أن يكون حديثنا عن موضوع الإخوة في الله, فقد قال الله تعالى في سورة الحجرات من الآية العاشرة"إنما المؤمنون أخوة"- وهذه الإخوة هي بالأصل والأساس أخوة عقدية أكبر وأعمق من أي حزب أو تنظيم, لأنها في الله وحده دون سواه, وعندما ينتظم جمع من المسلمين في تيار أو حزب أو جماعة أو هيئة وفق أفكار معينة, فهذا يعني اصطفافا لتنفيذ هذه الأفكار "دون احتكار لها" بوسائل وطرق معينة, فقد يصطف جمع أخر لتنفيذ نفس الأفكار أو غيرها بوسائل وطرق أخرى, دون أن يجرح ذلك أو يخدش عمق رابطة الأخوة وكريم الانتساب لها. وفي إحدى رسائل الإمام البنا (رحمه الله) يقول: "وأريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأغلاها،والأخوة: أخوة الإيمان، والتفرق أخو الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدةَ بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار". و سلامة الصدر التي ذكرها الإمام البنا ( رحمه الله ), أحسب أنه أشار اليها استنادا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري "لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث" التعاون لا التنافر إن الساحة المصرية اليوم إثر مناخ الحرية, قد تمتلئ بأوعية كثيرة لخدمة الدين والوطن, ولعل شعار المرحلة الذي يصلح لها اليوم (وكل يوم) يستند على القاعدة الذهبية لرشيد رضا (رحمه الله) والتي تبناها الإمام البنا (رحمه الله): "لنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه", وأحسب أن تأسيس هذه القاعدة قد انطلق من قول الله تعالى:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾- المائدة.2 ولذلك نجد أن الإمام البنا رحمه الله في رسالة ( دعوتنا), وتحت عنوان " نُجمِّع ولا نُفرِّق " يقول: إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عُرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان." وفي رسالة (المؤتمر الخامس) ذكر رحمه الله : "والإخوان المسلمون يرون في الهيئات الإسلامية على اختلاف ميادينها تعمل لنصرة الإسلام، ويتمنون لها جميعا النجاح، و لم يفتهم أن يجعلوا من منهاجهم التقرب منها والعمل على جمعها و توحيدها حول الفكرة العامة" – ولم يكن هذا القول من قبيل الكلام المنقطع عن العمل والتطبيق, بل طبق(رحمه الله) هذه الفكرة تطبيقا عمليا بخلق كريم عندما أنشقت مجموعة من الإخوان وأطلقت على نفسها ( شباب محمد) وبدأت تطبع ايصالات لجمع التبرعات لهذه الجماعة الوليدة فكان ايصال التبرع رقم (1) بأسم المتبرع: حسن البنا !! (كما ذكر فضيلة أخي الشيخ عصام تليمة في مقال له), وقد ظل الإمام البنا وفيا لهذا المعنى حتى وفاته, بل إن أخر عمل لقى به ربه كان زيارة عمل وتنسيق مع هيئة أخرى هي جمعية الشبان المسلمين, حيث تم اطلاق الرصاص عليه أمام مقر تلك الجمعية بالقاهرة!! التصالح مع الأفكار الأخرى ولم يكن البنا رحمه الله متصالحا فقط ومتعاونا مع الهيئات الإسلامية ,بل نجده (رحمه الله) متصالحا مع بعض الأفكار التي قد يراها آخرون متصادمة مع روح وقيم الإسلام, فقد كتب تحت عناوين الوطنية والعروبة والقومية فهما يُعظّم من القواسم المشتركة مع هذه الأفكار, كما نجده يوصي بعدم تجريح الهيئات والمؤسسات والأشخاص مهما كانت درجة الخلاف. نعتذر لمخالفينا! كان يمكن للإمام البنا عند أي قضية خلافية أن يقول (نختلف مع مخالفينا) لكنه لم يرتق فقط ليقول ( نتفهم مخالفينا) بل نجده رحمه الله في رسالة (دعوتنا) تحت عنوان : "نعتذر لمخالفينا" يقول: " نلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟ " يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم. فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين، نسأل الله لنا ولهم الهداية". ما أجمل فهم هذا الرجل وحلمه وسعة أفقه وحنان قلبه وتسامحه,لقد كان حقا صاحب مشروع, وصاحب خلق رفيع, وداعية وحدة بامتياز . التماس الاعذار ولقد قدم رسول الله النموذج الأسمى للاقتداء حين رفض معاقبة (حاطب بن ابي بلتعة) حينما أخبر قريش( وكانوا لا يزالون على الشرك) بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيشه لفتح مكة, كما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره, من حديث على بن أبي طالب, وحين استفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب, فقال حاطب: ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم, فقال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال: [إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم] , ولعل هذا يُعلمُنا أهمية تقدير واستحضار سابقة الخير للرجال حين يقع منهم ما لا نقبله. الخروج الآمن تحدثت منذ أيام مع أخ كريم ملأ الدنيا صخبا على صفحات الفيس بوك, وأوصيته أن يتحدث برفق عن الإخوان, حين ينصح أو ينتقد حفاظا على وداد الأيام ووفاءً لسنوات عديدة وصحبة كريمة وجلسة صالحة كانت تجتمع على الكتاب والسنة والسيرة, ووعدني أن يفعل, لكنه للأسف لم يف بوعده, حتى أنني تحدثت مع أخ كريم يعمل في دولة قطر أطالبه (لمكانته عنده) أن يحثه وغيره على الالتزام بأدب الإسلام (فإمساك بمعروف أو تفريق بإحسان), ووافقني الأخ الكريم قائلا: إنني عندما أسكن في بيت مع سكان آخرين ربما نختلف معا في دهان واجهته أو صيانة مصعده أو غير ذلك, وحينما أغادر البيت فلا شأن لي به, فليفعل ساكنوه به ما يشاءون!! وأتذكر في هذا المقام ما كتبته من قبل مخاطبا الدكتور سيد عبد الستار المليجي بمقال كان عنوانه: "لا يا من كنت حبيبي"! وكتبت أيضا برفق مخاطبا الأخوين الكريمين أبو العلا ماضي وعصام سلطان بمقال كان عنوانه: "الإسلاميون ونقد الإخوان", وجهت فيه حديثا للمهندس أبو العلا ماضي قلت فيه :[ أحسب أن بعضا مما كتبت وقلت يستحق الاهتمام والمناقشة, وقد يكون في صالح الجماعة, لكنه وفي نفس الوقت, فإن بعضا مما قلت وكتبت يستحق العتب والنقاش الموضوعي الحر] – المصريون. وهذا لا يعني انتمائي "لحزب التبرير" فقد كتبت "نحو مراجعة إخوانية", "سمك الإخوان", "انتقاد الإخوان نعم ومرحبا", وغير ذلك, مجتهدا تقديم أفكار للمناقشة العلنية لاختبارها ميدانيا بين القراء عسى أن يتحقق لها قبولا كليا أو جزئيا أو دحضها أو بلورة غيرها منها.. خطر العلمانية المتطرفة لم يعد الأمر بحاجة الى دليل, إذ أنه واضح كنور الشمس, فأي متابع للحالة السياسية المصرية يرى اصطفافا سياسيا وإعلاميا واضحا من تيارات بعينها, بعضهم كاره لدين الله أصلا, كما يظهر في كتاباتهم وأقوالهم ومواقفهم عبر تاريخهم, وبعضهم (حسن النية) يتوجس من الطرح الإسلامي دون كره له,لأسباب عديدة, منها توجسا من ممارسات وتطبيقات بعينها,ومنها ما يرجع لمواقف وتصريحات مقلقة بحق لبعض الإسلاميين أنفسهم, وإذ ندرك تلك التفرقة لأن التعميم بالأصل مُخل, وعلى ذلك, إذا كانت الساحة السياسية تشهد حشدا وتنسيقا لهذه التيارات الراغبة في تشويه وإقصاء كل ما هو إسلامي, فعلى الإسلاميين أنفسهم وفقا (لواجب الوقت) أن يعملون على تعظيم المشترك بينهم وفق منطق الإخوة الإسلامية والأهداف العليا, وحينما يكون ثمة تيارات تتشكل لخدمة دينها ووطنها وفق رؤى معينة, فأحسب أن لا تتسبب هذه الرؤى المتعددة الى مشاحنات واختلافات واتهامات تصرف العاملين بجد لله ثم الوطن عن الخطر الكبير الناتج عن اصطفاف أصحاب الرؤى العلمانية الاقصائية والمتطرفة معا لتطبيق رؤيتهم.. الباب المفتوح إن كنت أتفهم سعي بعض الإخوة لتأسيس كيانات جديدة لما يرونه من انتقادات للكيانات القديمة, فأقول لهم: إن أول قاتل في التاريخ كان أخو أول قتيل في التاريخ ( قابيل وهابيل)!! وقد كان ذلك فضحا جليا لأغوار النفس البشرية, وعلى ذلك, لا يتصور أحد, أنه حين خرج من التيار القديم لما يراه من نقائص وقصور, أن تياره الجديد (بحكم بشريته) سيخلو من نقائص وقصور!!. لذلك أرى أنه من الاهمية القصوى الابقاء على روح المودة والحب سواء لمن بقى بالتنظيم أو خرج منه لأنه كفيل بأن يفتح الباب للعودة, فإن لم يكن, فإنه يُبقى الباب مفتوحا لتحقيق التراحم والتعاون والتنسيق والتفاهم لتحقيق أهداف الوطن الغالية,ولعل حوارا كريما بين الإخوان والسلفيين والجماعة الإسلامية وحزب الوسط والعمل وأي أحزاب جديدة تنشأ على خلفية إسلامية بالإضافة الى الإسلاميين المستقلين, يكون عنوانا لهذه المرحلة, اجتماعا على "الفكرة" إن لم يتم الاجتماع على" التنظيم",وذلك تفاديا للتشرذم الذي يبعثر الجهود ويشتتها ولا يستفيد منها إلا خصوم الإسلام الذين قد يقبلون بأي قيم شرقية أو غربية لكنهم لا يقبلون بقيم الإسلام كعنوان للحضارة والنهضة والتقدم. مصطفى كمشيش [email protected]