ككل الدول التي نجحت فيها ثورات شعبية أزالت نظم حكم طاغية مستبدة أذلت العباد والبلاد تمر مصر بمرحلة ما بعد الثورة، وهي مرحلة انتقالية تسود فيها مجموعة من السمات الخاصة، ومن ثم فليست حالة مصر بدعا من الدول التي نجحت فيها ثورات شعبية. أول هذه السمات هي سيادة حالة من اللايقين بين كثير من فئات الشعب، حالة يكتنف الغموض فيها نفوس كثير من الناس، وتكثر تساؤلات المسير والمصير، صحيح أنها ليست أبدا حنينا لعصر الظلمات وبحر الفساد، لكن هكذا هي الخطوات البكر في أول طريق الحرية، ثم لا تلبث الناس أن تضع أقدامها على الطريق، وتضبط بوصلتها وتتحدد مؤشرات نجاحها. ثاني هذه السمات هي انفجار المطالب الفئوية والاحتجاجات القطاعية على كل شيء وأي شيء، فمصر نهاية عصر مبارك المظلم قد أصبحت ثوبا اتسع خرقه على الراتقين، حالة من حالات الإهتراء العام في كل المجالات وعلى مختلف الصعد، ورحم الله أستاذنا الكبير المهندس محمد الصروي الذي كان يقول: "إن مبارك لن يترك مصر إلا وهي خرابة". ثالث هذه السمات هي أن الثورة موجة عمّت المجتمع من أقصاه إلى أقصاه، وفرضت منطقها وحركتها حتى على كثير من المثبطين الذين لو خرجوا في الناس ما زادوهم إلا خبالا. وككل الموجات العالية لا تعدم من يحاول ركوبها، أو يمتطي صهوة جوادها، فدائما عندما يتكشف مستقبل الثورة أنه إلى انتصار، يظهر مجاهدو الربع الساعة الأخيرة والذين يظلون طوال الوقت يحدثوننا عن بطولاتهم وعن ما قدموه، يمنّون على مصر أن ساهموا في تحريرها بدقائق معدودات وقفوا فيها في ميدان التحرير بعد أن انجلى غبار المعركة، وعرف حتى الأطفال أن النظام قد حزّم أمتعته ويرتب وضع الثروات المنهوبة، وكيف يأمن الملاحقة القضائية. إلا أن الناس قد تجاوز وعيها كل السقوف ولن ينطلي عليهم ما كان يروج من بضاعة مزجاة، سواء فكرية أو دينية، وقابل الأيام ستحدث عمليات فرز عميقة تكشف الناس فيها كل من يحاول أن يتاجر بأحلامها كما كشفت من قبل من حاول أن يتاجر بآلامها. للأسف حتى من حرّم المظاهرات يريد أن يركب موجة الثورة، ومن أقسم بأغلظ الأيمان أنه لا شأن له بالسياسة يريد أن يؤسس حزبا. رابع هذه السمات أن عقب نجاح كل الثورات تمر المجتمعات بحالة من حالات الضبابية في الرؤية، وعدم الوضوح في الأهداف، وتداخل الطموحات والمطالب بل اختلاطها، وعدم ضبط الأولويات والآليات والمكونات بل تلاشيها، وما تمر به مصر في تلك الآونة ليس غريبا على مجتمع نجحت ثورته، إنما الغريب أن تطول هذه الفترة أو تتعقد فيها الحسابات. خامس هذه السمات هي سيادة حالة من الهواجس من رجوع النظام السابق، وتظل الناس غير مصدقة أن صفحته قد طويت ويكثر الحديث عن فلول النظام ومجاميعه من أعضاء حزبه أو سماسرته التي يمكن تحريكها أو ربما تنجح في إفشال الثورة، لكن هيهات. إن الثورة المصرية لم تطح بمبارك كحاكم مستبد فقط بل أطاحت بمنظومة كاملة من الفساد على مختلف الصعد داخليا وخارجيا، مرحلة تحول فيها الفساد من مجموعة أفراد فاسدين إلى منظومة كاملة لإدارة الفساد تعيش به وتعيش عليه. في بداية الثورة لم تكن الناس مصدقة أن نظام مبارك قد زال، وظلت تتناوشها الظنون والشائعات، وفي هذا الإطار كانت تتضخم المشكلات التي تواجه المجتمع والدولة، وكثر الوقوف عند كل ساقطة ولاقطة، وغلبة نوع من سيادة التفكير بالمؤامرة، وإن كانت الحقائق على الأرض تقول غير ذلك، وإن كانت الوقائع تقول إن التغيير قد حدث بالفعل وأن صفحة النظام البائد قد طويت كما يطوى الكتاب، وتجاوزت مصر مخاض الثورة العسير، وتحقق حلم التحرير من هذا الاستعمار الداخلي. لكن تبقى أهم أمراض مجتمعنا الفكرية والمجتمعية (المتعددة والمعقدة) هي ما يسميه مالك بن نبي "النزعة الذرية" ويقصد بها تلك الرؤية السطحية التي تجزئ المشكلات, وتطرحها منفصلة عن بعضها، بل الانشغال بجزئية صغيرة والمراهنة عليها لوحدها لتحقيق أهداف النهضة. والمهم الآن في الحالة المصرية هو تحديد رؤى الإصلاح الكبرى، ومسارات سير تبلور خطوط المستقبل وتضبط اتجاهات البوصلة، فمشوار النهضة طويل.