في الأول من مارس أطلت علينا – في توقيت لافت للغاية – الذكرى المئوية الثانية لحدث جلل في التاريخ المصري كانت له آثار بعيدة جداً في عمق شخصية الشعب المصري وفي الوعي الجمعي له ربما أكثر من أحداث أخرى أشهر منه، لكن آثاره بقيت طويلاً وربما لا أكون مبالغاً أننا لم نتخلص من آثار 1 مارس 1811 إلا في 25 يناير 2011، ولولا 25 يناير لكتبت اليوم أن آثاره مازالت باقية إلى الآن !!. ففي الأول من مارس عام 1811 دعى والي مصر محمد علي من كان بالقاهرة من أمراء وأفراد المماليك لإحتفالية في القلعة والمشاركة في موكب خروج حملة إبنه طوسون باشا إلى الحجاز، وكان محمد علي قد هادن المماليك قبلها بسنوات وأعطاهم الأمان فرضي به أغلب المماليك -إلا من فر من مصر أو إلى الصعيد- وساكنوه في القاهرة واستقروا فيها وركنوا إلى حياة الدعة والراحة وأصبحوا جزءً من الدولة، فلبى جميعهم دعوة محمد على وخرجوا إلى القلعة في زينتهم إلا من كان منهم في بعض شأنه خارج القاهرة وقليل ما هم، وجلس محمد علي مع الأمراء والبكوات وتضاحك معهم وشرب معهم القهوة، ثم نادى منادي الموكب فخرجوا من باب القلعة إلى زقاق ضيق متعرج حوصروا فيه وامطروا بالرصاص من كل جانب حتى سقطوا جميعأً ومن فر منهم إلى داخل القلعة قبض عليه وقتل، ثم طورد بقيتهم في باقي الأقاليم حتى مات في مذبحة القلعة وتوابعها أكثر من الف قتيل. لعل أسوأ ما في مذبحة القلعة بعد الدماء التي أريقت بالغدر أنها كانت رسالة إلى الشعب المصري، وقد إستوعبها الشعب وفك شفرتها، فلم يكن المماليك وقتها قوة ذات بال تقلق محمد علي خاصة بعد ان قلم أظافرهم وأستكانوا إلى حياة الدعة، فلم فعل ذلك ؟!، لقد كان يوجه رسالة أنه لن يرحم من يأتي من ناحيته – ولو إحتمال ضعيف – أنه سيناوئ سلطانه، لذلك مارس إبادة جماعية تجاه طائفة من رعاياه دون مبرر مقنع ليرسل رسالة إلى باقي الرعية، وضرب الأقلية لتخاف الأغلبية، تلك الأغلبية التي أسقطت سلفه خورشيد باشا وجاءت به، تلك الأغلبية التي من قوتها أنها واجهت نابليون بجبروته ومن بعده كليبر، تلك الأغلبية التي إنتصرت على فريزر وجيشه الإنجليزي وقت أن كان هو في الصعيد خائفاً يترقب، كانت مذبحة القلعة موجهة – في رأيي – بصفة خاصة إلى الشعب المصري، وليس إلى المماليك التي كانت شوكتهم قد إنكسرت قبلها كما نوه بذلك المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي وغيره. وقد وصلت الرسالة بالفعل وكان لها أسوأ الأثر على التاريخ المصري الحديث، وما أدق ما قاله الرافعي – على إنحيازه العام لمحمد علي- حين قال معقباً على مذبحة القلعة بكلمات حق لها أن تكتب بماء الذهب" إن الفتك بالمماليك على هذه الصورة الرهيبة كان له أثر عميق في حالة الشعب النفسية، لأن مذبحة القلعة أدخلت الرعب في قلوب الناس وكان من نتائجها أن إستولت الرهبة على القلوب، فلم يعد ممكناً إلى زمن طويل أن تعود الشجاعة والطمأنينة إلى نفوس الناس، والشجاعة خلق عظيم تحرص عليه الأمم الطامحة إلى العلا، وهي قوام الأخلاق والفضائل القومية، فإذا فقد الشعب الشجاعة وحلت الرهبة مكانها كان ذلك نذيراً بإنحلال الحياة القومية وفسادها، فالرهبة التي إستولت على النفوس بعد مذبحة القلعة كان لها أثرها في إضعاف قوة الشعب الخلقية والمعنوية، وتلك خسارة قومية كبرى، فإنما الأمم أخلاق وفضائل، أضف إلى ذلك أن هذه الحادثة وقعت في وقت كانت فيه النفوس قد تطلعت إلى مراقبة ولاة الأمور ودبت فيها روح الحياة والديموقراطية، وتعددت مظاهر هذه الروح من إجتماعات للشعب وإحتجاجات على المظالم، فنحسب أن مذبحة القلعة قد قضت على هذه الروح إلى زمن طويل وأحلت محلها روح الرهبة من الحكام، وغني عن البيان أنه مع ما أسداه محمد علي من خير للبلاد في خلال حكمه فإنه لم يعوض على الشعب ما فقده من تلك الناحية الخلقية، ناحية الشجاعة الأدبية والروح الديموقراطية، تلك الروح التي هي من أركان عظمة الأمم ومن دعائم حياتها القومية". لعل ما سبق يفسر كيف إنكسرت مقاومة الشعب بسرعة عند دخول الإنجليز للقاهرة وإستكانة مصر للإحتلال الإنجليزي على العكس من تصديها العظيم للإحتلال طوال حملة نابليون وخلال حملة فريزر، ذلك أن الضعف الذي أصاب نفسية المجتمع المصري نتيجة لجرائم محمد علي مثل مذبحة القلعة ومثل ضرب القيادة الدينية والوطنية للشعب والتي واجهت نابوليون ومن بعده حملة فريزر قد أفقد الشعب روحه النضالية مما أوقع مصر فريسة لإحتلال طويل المدى دون مقاومة تذكر مقارنة بجهاده البطولي السابق، ولم يفق الشعب بعدها من هاجس الخوف ولم يكسر حاجز الرعب – وإن كان حقق بعض الشروخ فيه عام 1919 و1935- حتى كسره بفضل الله خلال ثورة 25 يناير، حين خرج ملايين المصريين يتحدون الطغيان في عنفوانه، ويتصدون للرصاص المطاطي والحي، والقنابل المسيلة للدموع وقنابل المولوتوف، ولهراوات راكبي الجمال والخيل، فكتب الله لهم النصر المبين، وسقط حاجز الخوف بلا رجعة إن شاء الله، فالآن - والآن فقط - تحررنا من رسالة محمد علي التي أرسلها إلينا يوم مذبحة القلعة. [email protected]