في جلسة علمية جمعتني ببعض كبار مفكري مصر في مقر نادي أعضاء هيئة التدريس جامعة الأزهر بمدينة نصر، بحضرة رئيس نوادي أعضاء هيئة تدريس الجامعات المصرية سعادة أ.د. حسين عويضة.. ودار النقاش حول ضرورة تطوير جامعة الأزهر وتفعيل دورها على الصعيد المحلي الإقليمي والعالمي تفعيلا حقيقيا، يليق باسم الجامعة وتاريخها الزاهر وبمكانة مصر الدولية. وطُلب مني أن أسهم في هذا الحراك، فكتبت ورقة بعنوان: (تصور مقترح لتطوير جامعة الأزهر في ضوء التغيير الشامل ببنية النظام في مصر)... ويسرني أن أعرض ما أفاض الله سبحانه به عليَّ، على السادة قراء صحيفة "المصريون" الغراء؛ لنتبادل الرؤى والأفكار والطروحات حول هذا الموضوع؛ من أجل تحقيق هدفنا المنشود الرامي إلى تطوير كل مؤسسات الدولة المصرية، وعلى رأسها جامعة الأزهر الشريف. * * * أثبت التاريخ أن قوة مصر ومكانتها وتأثيرها في الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، تقاس بقوة مؤسسة الأزهر الشريف... تلك المنارة العالمية التي تعد كعبة العلم ومقصد الدارسين للعلوم العربية والإسلامية من كل مكان.. ولقد أثر الأزهر الشريف عبر تاريخه المديد ومن خلال أروقته في تفاعل الحضارات وإذابة الفوراق الثقافية والاجتماعية، وإحداث التقارب والتعارف بين الناس... وفي العصر الحديث ينظر غير المسلمين إلى الزهر وجامعة نظرة تقدير واحترام، ويعولون عليه كثيرا في تفعيل دوره الحقيقي في التفاعل والتقارب الحضاري.. وأبناء الأزهر في كل مكان هم سدنة العلم والدعوة الوسطية.. وهم رمانة الميزان في مواجهة الإفراط والتفريط والغلو والتشدد في الدين.. وأثناء تجوالنا في العواصم الأوروبية وغيرها بزي الأزهر الشريف، نجد احتراما وتقديرا كبيرا من غير المسلمين. إن الأزهر الشريف يوم أن كان مستقلا عن التبعية العمياء للأنظمة السياسية، تبوأ مكانة سامقة وشامخة في كل ربوع الدنيا.. ويوم أن كان تابعا لها بصورة عمياء ضعف دوره، وخفت صوته العالي الشجي، وأصبح ضعيف التأثير... وجامعة الأزهر هي القلب النابض للعالم الإسلامي، وهي الرأس والرمز والمرجعية الدينية للمسلمين في كل مكان... وحرام ثم حرام أن يضعف دورها أو يُغييب أو يغيب. * * * ولقد أفرز الحراك السياسي الذي قام به الشباب في مصر متغيرات جديدة، وأعرب عما يلي: 1. قدرة المجتمع على التجديد والابتكار في كل المجالات، وقدرته على نبذ الفساد. 2. قدرة المجتمع على استدعاء القيم التي غابت عنه بكل قوة وفاعلية. 3. قوة الشباب الجارفة وقدرتهم على التغيير والتطوير والإبداع. 4. استدعاء المشهد المناسب الذي يجب أن يكون عليه المجتمع المعاصر. 5. قدرة الشباب المصري الفائقة على تجاوز الأزمات بصورة حضارية، ملهمة لشعوب العالم بما فيها أمريكا بشهادة رئيسها باراك أوباما. ولقد كان وقود هذا الحراك: - ثورة المعلومات والاتصالات وما أفرزته من آليات مثل: الفيسبوك واليوتيوب والتويتر....إلخ - البطالة التي يعاني منها شبابنا، والتي لم يُعيرها المسؤولون الاهتمام الذي تستحقه، والتي تدل على ضعف مخرجات الجامعات المصرية، وضعف تأهيلهم وإعدادهم لسوق العمل، الأمر الذي يحتم على الجامعات والمؤسسات المعنية أن تعيد النظر من جديد في تلك القضية برمتها. * * * ولما كانت جامعة الأزهر هي مركز الحصانة الفكرية والمناعة الثقافية للمسلمين، ومركز زراعة القيم والأخلاق واستنباتها في المجتمع الإسلامي، وإعداد الشباب لمواجهة تحديات الحياة، ورعاية الفكر الإسلامي المستنير؛ فإن عليها عبء كبير في محو الصورة الذهنية السيئة عن الإسلام، والقضاء على ظاهرة الإسلام فوبيا، ورسم مستقبل الإسلام والمسلمين حول العالم في المرحلة القادمة. لذلك يجب علينا أن نتكاتف جميعا؛ لنوقد مصابيح جامعة الأزهر وأنوارها في كل مكان من جديد، لنعيد لها تأثيرها المنشود، بصورة حضارية تبرز عالمية الإسلام، ودوره في إصلاح الكون وإعماره، ومن ناحية أخرى تعزز مكانة مصر على المستوى العالمي. وفي هذا الورقة أتحدث عن تصور مقترح لما يجب أن تكون عليه جامعة الأزهر في المستقبل. المحور الأول: أهداف التصور المقترح لتطوير جامعة الأزهر يمكن التوصل بتلك الأهداف إلى تطوير وتفعيل دور جامعة الأزهر من خلال: 1- علاج المشكلات التي تواجه الجامعة في القيام بأدوارها المنشودة، وذلك من خلال الدراسات العلمية. 2- مواكبة الجامعة للفكر التربوي المعاصر والتطبيقات والتجارب الدولية في التطوير والنهوض. 3- تقديم نموذج عملي يمكن تطبيقه لتطوير الجامعة، من خلال المقترحات الإجرائية التي يمكن أن تساعد صناع القرار في تطوير أداء الجامعة، وبما يتلاءم مع معطيات العصر الحالي، واستشراف معطيات المستقبل وحاجاته، واقتراح مجموعة من الآليات اللازمة لتنفيذ هذه التوصيات. المحور الثاني: منطلقات التصور المقترح لتطوير جامعة الأزهر يقصد بمنطلقات التصور المقترح: الأسس التي يُبني عليها التصور، وموجهاته الرئيسية، ويمكن حصر تلك المنطلقات فيما يلي: 1. الفكر التربوي الإسلامي والعالمي، مع التركيز على ما هو حديث ومعاصر منه، وما يمكن الاستفادة منه في تحقيق ممارسات أفضل للعملية التعليمية بجامعة الأزهر. 2. التجارب والممارسات الدولية المعاصرة، التي أثبتت الدراسات العلمية نجاحها في مجال التعليم للحياة، والنهوض بالتعليم، وأيضا التجارب الرائدة في إحياء وتفعيل دور الوقف الإسلامي بصور وأشكال جديدة، كما حدث في تجربة التعليم للحياة وفق التربية الإسلامية الحديثة لمؤسسة دار السلام كونتور الإسلامية بإندونيسيا. وكما حدث أيضا من إدخال الوقف بفاعلية في تطوير البلاد علميًّا وتكنولوجيًّا من خلال الجامعات، كما حدث في التجربة الوقفية التركية. 3. التصدي للمشكلات التي يمكن أن تعوق عمل جامعة الأزهر، والتي يؤكدها الواقع الفعلي الممارس، وأثبتتها الدراسات العلمية، وتقارير المؤتمرات المعنية. 4. إفساح المجال للراغبين في التطوير: من خلال: - المشاركة في فرق عمل لتطوير أداء الجامعة، والتركيز على العمل التطوعي. - مشاركة كل من له صلة بالقرارات التعليمية في صناعتها، مع الأخذ في الاعتبار أن الاختلاف في وجهات النظر يثري عملية التطوير والتفعيل المنشودة للجامعة. - أن التدريب يساعد علي تنمية مهارات الابتكار وحل المشكلات التي تسهم في عمليات التطوير. المحور الثاني: مرتكزات التصور المقترح لتطوير أداء جامعة الأزهر: يقوم التصور المقترح على مجموعة من المرتكزات: 1- الاستناد في فلسفة التطوير على القرآن والسنة: ففلسفة التربية والتعليم في الجامعة يجب أن تظل تنبع من القرآن والسنة ومن التجارب التربوية في العالم الإسلامي، وتتطور وتتجدد، لتراعي حاجات المجتمع ومتطلباته، وتعتمد على متابعة الجديد في المجال. 2- الإيمان بضرورة التطوير وتهيئة المناخ المناسب: مرت جامعة الأزهر منذ نشأتها بمراحل تطوير متعددة، وهي في كل مرحلة، تشهد توسعات أفقية ورأسية في أدائها. أما الآن فقد أصبح التطوير السريع هو سمة المرحلة التي نعيشها؛ وأنه أصبح ضرورة في ضوء التغيير الشامل في بنية النظام في مصر؛ لذلك فلابد من الآتي: - القناعة التامة بأهمية معالجة أوجه القصور بجامعة الأزهر، من خلال الدراسات العلمية التي أجريت -والتي ما زالت كغيرها حبيسة الأدراج والأرفف. - وضع خريطة طريق لتطوير أدائها، بحيث يكون التطوير ومتابعة المستجدات، مع الحفاظ على أصالتها هو سمة الجامعة. - تهيئة المناخ العام عبر وسائل الإعلام والاتصال وغيرها لعمليات التطوير، ووضع حوافز للمشاركين في هذا التطوير. - السماح للشباب لتفريغ طاقاتهم وإبداعهم في عمليات التطوير والتجميل والتطوير وفقا لخبراتهم وأوجه تميزهم. 3- التكامل والتوازن والشمول: ويقوم التصور أيضا على التكامل والتوازن والشمول في كل الأمور المتعلقة بالعملية التعليمة، ومن ثم يجب أن تقوم الجامعة بمناهجها المتكاملة على الجمع بين العلوم الدينية والكونية، في إطار نظام تربوي يستند إلى إدارة حازمة، وإخلاص من القائمين؛ من أجل بناء الشخصية المسلمة بناءً عقديًّا وعقليًّا وبدنيًّا ومهنيًّا، علاوة على التوازن بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية والتدريب الميداني الحقيقي، ومزج الأنشطة التعليمية والأنشطة اللامنهجية خارج الفصول والقاعات؛ بما يساعد الطلاب على النمو السوي جسميا وعقليا واجتماعيا وعاطفيا؛ حتى يصبحوا مواطنين صالحين، ومسئولين عن أنفسهم وخدمة وطنهم، ومتفهمين لبيئاتهم الطبيعية والاجتماعية والثقافية بكافة مستوياتها. 4- تحقيق الاكتفاء الذاتي وإنشاء هيئة لأوقاف الأزهر؛ لاسترداد أوقافه واستثمارها: إن الاستقلال المالي للجامعة عن الحكومات وعن سلطان الدولة الاقتصادي والسياسي والأمني، كفيل بتحقيق استقلالها، ونهوضها بمهامها المنشودة في كل مكان.. لذلك فليزم للأزهر أن يسترد أوقافه من الدولة، وإنشاء هيئة أوقاف الأزهر الشريف، وحث الناس على الوقف الخيري، لتحقيق الاكتفاء الذاتي في تمويل برامج وأنشطة الجامعة، وأيضا تمويل الأفكار والطروحات الجديدة التي من شأنها تطوير وتفعيل أداء الجامعة. إن اعتماد الجامعة على موارد ذاتية متجددة من خلال الأوقاف الإسلامية الموقوفة عليها، وتطويرها وتنميتها، واستحداث صيغ جديدة للوقف كوقف الشخص نفسه على التعليم طيلة حياته، علاوة على أن الاستقلال المالي لها سيسهم في استقلال قرارها، ومن ثم تفرغها لتحقيق أهدافها. علما بأنه لن يتم بذل الناس للأوقاف الخيرية على جامعة الأزهر إلا بالثقة الكاملة في هيئة أوقاف الأزهر الجديدة، بحيث يضمن الناس أن أوقافهم ستوجه للخير وفق ما أراده الوافقون. 5- التوسع في نظام الدراسة الداخلي بالجامعة بين الأساتذة والطلاب، للتواصل العلمي الدائم بينهما: أثبت التاريخ الزاهر المديد للأزهر أن فلسفة النظام الداخلي في الدراسة به أدت إلى: - تفرغ الطلاب للتعلم، بحيث ينشغل كل واحد منهم بتحصيل العلوم، وبعدة أنشطة يومية مكثفة تدربه على ممارسة وتطبيق العلوم في شتى مجالات الحياة. - أحدثت فكرة النظام الداخلي في الدراسة بالجامعة تواصلا تربويا وعلميا وأخلاقيا مستمرا بين الأساتذة والطلاب، وتمكينا للطلاب من الاتصال بالأساتذة في كل وقت والتأثر بهم، وإشاعة جو من المحبة والألفة والأخلاق، واستلهام عناصر القدوة من العلماء والمدرسين، والتخلق بأخلاق الإسلام وقيمه، وتشجيع الطلاب على التفرغ التام لطلب العلم. - بث روح التعاون والعمل في فريق، والتدرب على ممارسة الإدارة وبعض الأعمال الحياتية بصورة عملية وبشكل مبكر. لذلك فإنني أطالب بما يلي: o التوسع في نظم الدراسة الداخلية في جامعة الأزهر، وذلك في الأماكن الجديدة o مشاركة الأساتذة طلابهم في إقامة الداخلية، ويمكن أن يتم ذلك بصورة دورية وتبادلية بين الأساتذة، وهذا من شأنه أن يطلع الطلاب على حياة الأساتذة، وكيف يقضون أوقاتهم في المطالعة والكتابة والتأليف... إلخ. o توجيه الأوقاف الخيرية في هذا المجال، بحيث يمكن شراء أراضي فضاء كثيرة في المناطق الجديدة وإقامة مثل هذه المشروعات عليها. 6- التدريب على القيام بمهام التطوير والتحديث: ويشمل ذلك: أ- تدريب الطلاب والخريجين والمعلمين والمديرين، على المنهجية العلمية في التعرف على المشكلات والعمل على علاجها، ومن ذلك: (تحديد المشكلة، تحليلها، تحديد البدائل، اتخاذ القرارات). ب- تدريب الجميع على استخدامات وتطبيقات الحاسب الآلي (الانترنت – البريد الإلكتروني – وإنشاء المواقع الإلكترونية التفاعلية - نظم دعم القرار- والحوار عن طرق الوسائل التكنولوجية الحديثة –اختزالا للمسافات- المناقشة- والتدريب على كيفية تبادل المعلومات مع الآخرين بصورة لحظية- العمل من خلال فريق العمل- والتدريب على كيفية التعامل مع المجتمع المحلي- وتكوين مجلس لأولياء الأمور من الخبراء وتدريبهم على التواصل السريع مع إدارة الجامعة). وللحديث بقية. المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية [email protected]