تحية للشهداء الذين سقطوا في الثورة التونسية (نحو 90 شهيدا) والذين يقلون كثيرا عن متوسط عدد ضحايا حوادث الطرق شهريا في مصر والبالغ أكثر من 600 قتيل شهريا.. صحيح أن ما يحدث في تونس هذه الأيام هو معادلة تحدث لأول مرة في دولة عربية، إلا أن لها مسارا شهدته الكثير من الدول في شرق أوروبا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا وهو: غضب شعبي من سياسات وممارسات خاطئة يتراكم حتى يؤدى إلى تظاهرات واحتجاجات غاضبة، تؤدي بدورها إلى فوضى شعبية وإنفلات أمني وسقوط ضحايا أبرياء ونهب وحرق للمتلكات العامة والخاصة، فإلى انهيار النظام.. انهيار النظم الشمولية سنة كونية وحتمية: انهيار النظم الشمولية عن طريق ثورة الشعب هو السيناريو الأسوأ الذي ينتظر معظم هذه النظم عندما تحين لحظة التغيير الحتمية، فدوام الحال من المحال، ولكل مستبد نهاية.. في واقع الأمر هناك عدة مسارات أمام هذه النظم الشمولية: إما أن تتجه إلى الديمقراطية عن طريق استجابة النخبة الحاكمة (الحاكم نفسه أو فريق من النخبة الحاكمة) لمطالب التغيير وقيادتها عملةي تحول سلمي وتدريجي نحو الديمقراطية (كما حدث في اسبانيا والبرازيل وغيرهما).. وإما أن تظهر جبهة معارضة ديمقراطية تستطيع الضغط على الحاكم الشمولي وإجباره على التفاوض على الانتقال السلمي التدريجي كما حدث في بولندا وجنوب أفريقيا والكثير من دول أمريكا اللاتينية وبعض دول افريقيا جنوب الصحراء.. أما السيناريو الآخر وهو السيناريو الأسوأ والمرتفع الثمن فهو ما حدث في تونس، ويحدث عندما لا يظهر حاكم إصلاحي ولا عناصر إصلاحية من النخبة الحاكمة، وعندما تسد هذه النخبة الحاكمة كل سبل الإصلاح التدريجي والسلمي ولا تحترم شعوبها وتتفنن في اللعب بالقوانين والدساتير وفي أدوات السيطرة والهيمنة على الشعوب وفي تكميم أفواهها بالتهديد والقمع والإقصاء أو بالمال الحرام والمناصب والعطايا والحوافز.. ويحدث هذا السيناريو أيضا عندما يقترن ما سبق مع فشل المعارضة في التكتل وإعتماد برنامج الحد الأدنى الديمقراطي للضغط على الحكومة وإجبارها على الإستجابة لمطالب الإصلاح، فيفقد الناس كل أمل في الإصلاح ويشيع الفساد وكل القيم السلبية وترتفع مسببات الإنفجار والغضب.. وعندما يحدث هذان الأمران، ينفتح الطريق أمام السيناريو المدمر وهو اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات السلمية في البداية ثم يتطور الامر إلى انفجار الأوضاع شعبيا وأمنيا، والنتيجة المنطقية هي سقوط الحكومة وأنصارها تحت أقدام الجماهير الغاضبة.. وغالبا لا يكون أمام الحاكم ورموز النظام إلا الهرب أو المحاكمة أو الإغتيال.. ويساعد تراكم عوامل الإنفجار أو حتى حوادث عرضية في الوصول إلى لحظة الإنفجار تلك.. فليس من الضروري أن يرتب الأمر مسبقا كما يظن البعض.. حدث هذا السيناريو بصور مختلفة في دول كثيرة في العقود القليلة الماضية، منها الفلبين ورومانيا وإندونيسيا وجورجيا وأكرانيا وفي إيرانوكوبا وليبيريا وزائير وغيرها.. لماذا هو السيناريو الأسوأ؟ هو السيناريو الأسوأ لأسباب كثيرة، أهمها السببان التاليان: أولا: اختلاط الحابل بالنابل وشيوع الفوضى وانفلات الأمن في الشارع وتحرك الجماهير بلا ضوابط.. ولكي نوضح مدى خطورة هذا الوضع لابد من القول أن الأصل – في عمليات الإنتقال الديمقراطي - أن يُحرك السياسيون الشارع ويقودونه نحو الضغط لتحقيق مطالب محددة، وليس العكس.. ثانيا: الأخطر أن هذا السيناريو طريق غير مضمون للديمقراطية، ففي بعض الحالات يؤدي انفلات الأمن من جهة وعدم وجود قوى معارضة ديمقراطية من جهة أخرى إلى سيطرة دكتاتور جديد على السلطة أو حلول نظام غير ديمقراطي كما حدث في كوبا وزائير وإيران وغيرها.. واقع الأمر أن خطورة الوضع في تونس هو في هذا الأمر الأخير.. أي احتمال ظهور دكتاتور جديد بنفس الخطاب السياسي الذي جاء به زين العابدين بن علي عام 1987 ثم استنساخ أدوات أسلافه تدريجيا بل والتجديد فيها.. ولاشك أن الدور الفرنسي قد يدفع نحو هذا الإتجاه بالنظر إلى علاقات تونس بالنخب الحاكمة في تونس ومصالحها هناك.. ولهذا فليس من السهولة معرفة ما إذا كانت قوى المعارضة الوطنية هناك ستنجح في التكتل وقيادة الشارع وتوجيه الاحتجاجات ضد عودة الدكتاتورية وضد تلاعب فرنسا بمستقبل البلاد.. أتمنى أن تنجح هذه القوى في انقاذ البلاد واستغلال الفرصة التاريخية التي صنعها الجماهير في أقل من أربع أسابيع وبثمن غير مرتفع مقارنة بثورات أخرى أكثر دموية.. هل من دروس لنا؟ ثلاثة دروس سريعة لنا في مصر أقدمها للنخبتين الحكومية والمعارضة: أولا: إستمرار النخبة الحاكمة في الإنفراد والإقصاء واللعب بالقوانين وشراء ذمم الناس وسكوتهم سياسة لن تدوم.. لن تدوم.. لن تدوم.. ولا يجب أن تدوم يا عقلاء القوم، فمصر ليست بدعا من الناس.. ثانيا: استمرار تفتت المعارضة وتصور كل فريق منها أنه المؤهل لقيادة البلاد أو أنه بمفرده سيرث الأرض وما عليها بعد التغيير.. استمرار هذا الأمر وتفويت فرص بناء تكتل ديمقراطي منظم، وعدم القدرة على الربط بين المطالب السياسية العامة والمطالب الفئوية، وعدم القدرة على قيادة فئات المجتمع المختلفة نحو انتقال سلمي تدريجي تستخدم فيه التظاهرات والاعتصامات بأهداف محددة وتحت شعارات منضبطة وأعلام موحدة.. هذه الأمور كلها ستساعد على انفصال الشارع عن النخب وتمهيد الأرض لانفجار الاحتجاجات الشعبية ضد الكل.. ثالثا: انفجار الشارع ليس هو الحل.. فقد لا يؤدي تلقائيا إلى الديمقراطية أو إلى وضع أفضل من الوضع الراهن.. يكفي أنهار الدماء التي سالت في تونس والممتلكات التي خربت هناك لدفع كل العقلاء في الحكومة والمعارضة إلى تدارك الأمر وتحصين مصر ضد مصير مجهول.. ولن يكون هذا إلا برضوخ الحزب الحاكم للمطالب الشعبية المصرية التي لا تختلف عن المطالب الشعبية التونسية.. أي تشكيل حكومة انقاذ وطني تمهد الطريق لجمعية تأسيسية تضع دستورا ديمقراطيا وضمانات لحياة سياسية سليمة تمهد الطريق بدورها لانتخابات ديمقراطية تأتي بحكومة منتخبة من الشعب ومسؤولة أمامه.. حكومة تقوم بإصلاح ما أفسده الحكم الحالي وتُمكن مصر من سلوك الطريق المؤدي إلى المكان الذي يليق بها.. هل العرب والمصريون يثورون؟ نعم العرب والمصريون يثورون. فما أود أن أختم به هذه المقالة هو ضرورة إعادة التفكير في كثير من الأفكار الشائعة عندنا والعمل على مراجعتها وإعادة النظر فيها. ففكرة أن العرب والمصريين لا يثورون وأنهم جُبلوا على الطاعة والإستسلام والخنوع ليسيت صحيحة، ليس فقط لأن الشعب التونسي ثار بالطريقة التي نشهدها الآن، لكن لأن المعتقلات العربية مليئة بالنشطاء السياسين، ولأن عواصم المنفى الأوروبي بها الآلاف من المعارضين العرب، ولأن جل القطاعات العمالية والمهنية اجتجت واضربت في مصر، وبعضها يضرب ويحتج في دول أخرى واليوم هناك أخبار عن احتجاجات اندلعت في المغرب والأردن والجزائر وموريتانيا.. إذا، ليس صحيحا أن شعوبنا العربية لا تغضب ولا تثور.. الأمر لا علاقة له بالجينات كما يتصور أو يروج البعض.. صحيح أن الشعوب تتفاوت في قدرتها على الصبر، إلا أن الضغوط تولد الإنفجار في كل بقاع الأرض... والأمر عندي متصل بعوامل كثيرة أهمها قدرات الحكومات على التخفيف من حدة الضغوط وابتداع أدوات جديدة لشراء الذمم وترغيب الناس في الحفاظ على الوضع الراهن من جهة، وبالقدرات الفائقة على القمع والاختراق من جهة أخرى. لكن في النهاية قانون العدد هو المعيار الحاكم، فلا يمكن قمع الملايين في الشارع! إن في تونس لعبرة.. -------- أستاذ العلوم السياسية المساعد بجامعة الإسكندرية www.abdelfattahmady.net