الشاب التونسى الذى لم يجد سوى عربة لبيع الخضروات ومع ذلك ضيق عليه زبانية النظام من موظفى الحكم المحلى والبلديات طلباً للرشوة قرر أن ينتحر انتحاراً مشرفاً أبياً مستجيبا لشاعر العروبة أبو القاسم الشابى الذى مات فى مثل عمره إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلى ولابد للقيد أن ينكسر كان أبو القاسم يتحدث عن ليل الاستعمار ولكننا اليوم نتمنى أيام الاستعمار بعد أن جثم على صدورنا جميعاً احتلال وطنى بغيض سد كل أمل فى الحياة الكريمة ووفر لأعوانه كل مقومات الترف والفجور واستباح كل شئ حتى حرمة الوطن ومقدساته حتى ضاق بالناس الأرض بما رحبت وظنوا بالله الظنونا. اختار شهيد تونس أن يخرج من الدنيا بمقابل وهو ايقاظ شعبه وكسر الخوف فى قلبه، فلاخوف إن كانت الحياة نفسها هى الثمن، فكان الشهيد شرارة فجرت الأوضاع الفاسدة التى ظن أصحابها أنهم مخلدون فيها حتى غرتهم الأمانى فرتبوا توريث هذه "الوسية" لذويهم وأحبابهم دون اعتبار لأخلاق أو قانون وضعوه أو شعب يردهم عند حدودهم ولذلك فإنه يحسن أن يتم تخليد شهيد تونس، لأن أثره سوف يحصد كل النفايات الحاكمة زبد الأرض الذين انخرطوا فيه ضد منطق الحق والتاريخ. فى فلسطين يستشهد الشاب مخلفا القتلى والجرحى والرعب فى قلوب الإسرائيليين ورسالة حاسمة بأن الموت يهب الحياة والخلود للوطن ولكن حلفاء المشروع الصهيونى أعداء شعوبهم الذين ظنوا أنهم الآلهة ونسوا يوم الحساب أحبطوا حق الشباب الفلسطينى فى أن يواجه عدوه بصدره العارى بعد أن تقاعسوا عن مواجهة المشروع تحت شعار أن الصراع معه على الحدود وليس على الوجود أولئك الحكام الذين اشتروا الدنيا بالآخرة فما ربحت تجارتهم ولذلك جاء شهيد تونس ليشعل ثورة على مخلفات المشروع وأعوانه وهزيمة المشروع الأمريكى الذى نبهت وزيرة الخارجية فى لقائها مع وزراء الخارجية العرب، وقد كنت مدعوا لهذا المؤتمر ولكنى أثرت ألا أرى هذه الوجوه الذليلة ومشهد انكسارهم أمام هيلارى كلينتون، التى نبهت إلى أن امبراطوريتهم تلملم أسما لها بسبب تعفن نظمهم ولن تجدى المعالجات السطحية المخدرة والمتأخرة، كما لا تجدى توبة فى هذه المرحلة بعد أن أصم الحكام "البررة الوطنيون" آذانهم وسلطوا الأمن وفرقوا بين الأخ وأخيه وأذاقونا العذاب، فاليوم لكم عذاب الهون بما كنتم تكسبون، ولايجدى ماقاله فرعون واليم يطبق عليه: تبت الأن، فنجاه الله ببدنه ليكون للناس آية، فلنفكر كيف نجعل هؤلاء بعد الطوفان للناس آية، والله لايحب الفساد وقد أفسدوا وفجروا حتى ظن الناس أن ملك الموت قد غفل عنهم ولكن الله حذرنا ولاتحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون. أما الشاب المصرى المنتحر فإنه إما أن يلقى بنفسه فى النيل أو يجاهد هرباً من الجحيم صوب أوربا أو غيرها فيموت فى البحر دون هدفه وهو عند الله شهيد إن شاء الله، أو ينتحر بطرق أخرى. المنتحر المصرى فقد الأمل فى النجاة وسدت أمامه طرق الخلاص بعد استيلاء الحزب الوطنى على دنيا مصر وأخرتها وتحدث رموزه عن مصر الأخرى التي لايعرفها الشعب. فالمنتحر المصرى غاضب ويائس ولكنه آثر أن يموت هذه الميتة التى تحطم قلوب المشاهدين له وهو يفارق دنيا مصر غير آسف عليها بعد أن عز عليه أن يعيش كريما فيها. فالشاب الذى انتحر فى النيل لأنه ليس لائقا اجتماعياً للالتحاق بالسلك التجارى رغم تفوقه العلمى، والشاب الذى انتحر فى النيل لأنه خذل محبوبته لعجزه عن توفير متطلبات تكوين الأسرة وهو عاطل والفتيات العوانس اللائى فقدن الأمل فى الزواج فينتحر منهن كل عام قرابة ثلاثة آلاف مما تسجله الأرقام الرسمية فاقدة المصداقية. والسئوال : ما هى الدلالة السياسية لانتحار الشاب التونسى والشاب المصرى؟ الشاب التونسى يتمتع بالوعى والتصميم وإيقاظ المجتمع النائم على الظلم وهو قطعاً قرأ كلمة مونتسكيو بأن الظلم وحده لايولد الثورات وإنما الشعور بالظلم هو مفجر الثورات. أما فى مصر فإن المنتحر مظلوم وشعر بالظلم وحده واستنفذ طاقة الصبر لديه بعد أن باع العطارون كل مالديه للمصريين من صبر وصبار. ولو أن الآلاف المنتحرة قد انتحرت وودعت الحياة بالشكل الذى فعله شهيد تونس لتغير الحال فى ساعة واحدة مادامت الرسائل التى تصل إلى النظام أنه شعب خائف ضعيف، ساهم فى اضعاف عزيمته، فانخرط الشعب فى الفساد مادامت المطالبة بالعدل لا تلقى مجيباً أو حتى مستمعاً. إن الشعب المصرى يختزن طاقة الصبر لديه عبر العصور ولكنى أظن أن دوام الحال من المحال حتى مهما تفننت السلطة فى تأخير الفترة الفاصلة بين الظلم والشعور به، وبين صور التعبير عنه، لقد طف الصاع وبلغت القلوب الحناجر، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فهو بلاغ لكل من ألقى السمع وهو شهيد.