منذ عدة أشهر خرج البرازيليون من منازلهم للاحتفال باختيار "ريو دي جانيرو" لتنظيم دورة الألعاب الأولمبية سنة 2016، بعدما تفوقوا على الولاياتالمتحدة، التي قاد رئيسها "أوباما" بنفسه الدعاية لمدينة "شيكاغو"، ولكن بعد ذلك بشهر، بقي البرازيليون في منازلهم لأن التيار الكهربائي انقطع لست ساعات عن عدة مدن، وكان عنوان الصحف البرازيلية «ماذا لو كانت الألعاب الأوليمبية بدأت أمس؟» وجاء رد وزير الكهرباء فورًا: (لن يخذلنا "أتيبو".. تستطيع البرازيل التي بنت "أتيبو" كأكبر سد كهربائي في العالم، أن تستضيف أكبر المنافسات الرياضية دوليًا). هذه هي الروح التي تسود البرازيل الآن؛ روح التحدي، والإصرار على الوصول لأعلى مراتب النجاح، يعلم البرازيليون أن لديهم نقاط ضعف، ولكنهم يسعون بقوة لتداركها وتحويلها لنقاط قوة، لم تكتف البرازيل بكونها أول بلد في العالم يستضيف كأس العالم ثم الأولمبياد في عامين متتاليين، ولكنها بحثت عن التميز في جميع المجالات، مع رئيسهم ومعشوق البلاد "لولا داسيلفا"، الذي ترك الحكم وهو في أوج شعبيته، بعد أن قادها من مستنقع الفقر والجوع، لتصبح واحدة من أقوى دول العالم اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا. السر الأول في نجاح البرازيل يكمن في كونها استطاعت أن توازن بحذر بين اقتصاد السوق المفتوح، وبين الرقابة الحكومية على الأسواق، ولذلك فإن تبعات الأزمة المالية العالمية، والعدوى التي أحدثتها سندات الرهن العقاري لم تنتقل إلى النظام البنكي البرازيلي، كما ترجع قوتها أيضًا إلى اعتمادها على مقومات الاقتصاد الحقيقي (الصناعة والزراعة)، ففي السنوات القليلة الماضية أصبحت البرازيل سلة الغذاء الأولى، واحتلت المركز الأول عالميًا في تصدير البُن والسكر والقطن والصويا والطيور والأبقار والبرتقال والتبغ والإيثانول، وربما أصبحت البرازيل تصدر كل شيء حاليًا، بما يزيد عن 200 مليار دولار، خذ عندك مثلاً مصانع "امبرير" لصناعة الطائرات التي أصبحت تحتل المركز الثالث عالميًا بعد "بوينغ" و"ايرباص" حيث تتوقَع الشركة أن تبلغ مبيعاتها 700 طائرة عام 2015م، ولا يتوقف الأمر عند ذلك، فشركة "فال" البرازيلية هي القوة الأكبر عالميًا في صناعة الحديد، كما أن مؤسسة "بيتروباس" وهي المجموعة البترولية البرازيلية، تعد الآن المؤسسة الأكثر ربحية في أميركا اللاتينية، بعدما قامت بتدشين أكبر عملية اكتتاب في العالم؛ من خلال بيع أسهم جديدة بقيمة تقارب 70 مليار دولار أمريكي. أدارت البرازيل توجهاتها الاقتصادية الخارجية باحتراف سياسي؛ حيث توسعت في علاقاتها الاقتصادية مع كلٍّ من تركيا وإيران والعديد من الدول العربية، وعلى رأسها سوريا ودول الخليج والسودان، التي وقَّعت معها مؤخرًا اتفاقيات بقيمة تصل إلى 500 مليون دولار، وهو ما يعكس توجه الرئيس البرازيلي، الذي دفع بقوة لتغيير معادلات القوة في العالم، من خلال تشكيل شراكات مع دول الجنوب، حيث تزعم تحالفًا مكَّنه من توسيع مجموعة الثمانية الكبار لتصبح مجموعة العشرين، ثم شكل تحالف "بريكس" الاقتصادي القوي مع روسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، وأدَّى ذلك إلى تحطُّم مشروع المنطقة الحرة، الذي عملت واشنطن على إنشائه في الجنوب؛ ليتوجَّه بعدها إلى الدول العربية وتركيا وإيران. هذا الحضور القوي للبرازيل، هو الذي مكن "لولا" أن يدخل بقوة مع الأتراك لتسوية الخلاف حول الملف النووي الإيراني، وأن يقترح وساطته في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولم يجد حرجًا في أن يلوم ألمانيا بسبب تحفظاتها في شأن إنقاذ اليونان، وهو الآن يطالب بمقعد دائم للبرازيل في مجلس الأمن، والمتابع للمشهد الدولي يلاحظ أن السياسة الخارجية البرازيلية تسير بشكل مشابه تمامًا للسياسة الخارجية التركية، فيما يتعلق بفكرة تصفير القضايا؛ وهو سر مهم من أسرار النجاح البرازيلي، حيث تسعى الدولة إلى حلول وسط تقربها من جميع الأطراف، وتمد جسور المصالح الاقتصادية والسياسية معهم؛ استعدادًا لأن تكون لاعبًا له دوره وتأثيره على القضايا السياسية في العالم. مع رحيل "لولا" يجب أن نتذكر جميعًا موقفه الشجاع في إسرائيل، عندما رفض زيارة قبر "هيرتزل"، صاحب فكرة إقامة دولة إسرائيل، وهو الأمر المتعارف عليه من قبل جميع الرؤساء الذين يزورون إسرائيل، وكان ذلك سببًا في مقاطعة وزير الخارجية الإسرائيلي "ليبرمان" لتلك الزيارة، وعندما زار "لولا" رام الله؛ قام بافتتاح شارع البرازيل، أمام ضريح الرئيس الراحل ياسر عرفات، وكشف من هناك السر القديم من أنه شارك عدة مرات في تظاهرات لدعم مقاومة الشعب الفلسطيني والتقى كثيرًا بعرفات. نحن الآن مطالبون أكثر من أي وقت مضى، بتقديم كل الدعم الممكن لمواقف البرازيل تجاه العرب، وخصوصًا بعدما اختارت رئيسة البرازيل الجديدة نائبًا لها من أصول عربية "ميشال تامر"، في إشارة واضحة لاستمرار توجهاتها نحونا في المرحلة المقبلة، ولكن كل الخوف أن ترمي البرازيل "طوبتنا"، وتنصرف عنا نتيجة التخاذل العربي، وكل الخوف أن يحدث معها كما حدث في القارة الإفريقية، التي كانت سياساتها في يوم من الأيام مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، ثم تغيرت اتجاهاتها بعدما شعرت بتجاهلنا لها. المشهد الأخير في رئاسة "داسيلفا"، وصفه بدقة القارئ العزيز الدكتور "صلاح عبد السميع" في رسالته لي، وهو مشهد يعبر عن صدق معدن "لولا" وقيمه المثلى، هل تعلم دلالة أن يبكى رئيس دولة وهو يودع كرسي الحكم، لم يكن بكاؤه أبدًا لفراق الكرسي، وإنما لفراق شعب، لم يكن البكاء إلا من باب استدعاء ذلك الموقف الذي شعر فيه بالمرارة حينما انتقده بعض عوام الشعب من البسطاء، كان إحساسه الحقيقي يقول أنا منكم، وبينكم ولست غريبًا عنكم، أريدكم أن تصدقوني، أريدك أيها القارئ العزيز أن تقف عند تلك المشاعر التي بسببها أجهش بالبكاء في خطابه الأخير منذ أيام، عندما تذكر العام 1989 "حينما كنت أمشي في أحد أفقر مناطق المدينة، خرجت امرأة من منزل صغيرة وقديم، وقالت "لن أعطيك صوتي لأنك ستأخذ كل ما أملك"، رجعت إلى المنزل وأخبرت زوجتي بأنني حزين، لأن الناس الذين أريد مساعدتهم يخافون مني، قالت زوجتي لي: حاول ثانية، لأن هذا سيحقق نتيجة يومًا ما، وحقق ذلك نتيجة عام 2002، أنا أغادر الرئاسة، لكن لا تعتقدوا أنكم ستتخلصون مني، لأنني سأكون في شوارع هذا البلد، للمساعدة في حل مشكلات البرازيل". [email protected]