هناك الكثير من البشارات التي بشَّرت بمجيئ النبي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والتي وردت في كتب السير والتاريخ والآثار.. وقد لخَّصلها عليه السلام في قوله: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورؤيا أمي)، نتحدث عن طرف منها هنا: البشارة الأولى: أنا دعوة أبي إبراهيم: إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، لما ترك زوجته السيدة هاجر وابنهما الرضيع إسماعيل في مكة في هذا المكان الموحش، حيث لا أنيس ولا ونيس إلا الله، امتثالا تامًا وطاعة مطلقة لله تعالى، رفع يديه إلى السماء وتوجه إلى الله بهذا الدعاء الذي حكاه القرآن العزيز: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37)، ولما أمره ربه برفع قواعد الكعبة قال الله عن ذلك: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (البقرة: 127-129). فكان إبراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة للبناء. فرفع إبراهيم يديه إلى السماء وطلب من ربه أن يكونا من المسلمين، وأن يكون من ذريتهما أمة مسلمة. كما طلب منه بصريح الدعاء أن يبعث في أهل هذه البلاد رسولا عالميًّا نجيبًا.. وفي ذلك يقول تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ . رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فاستجاب الله دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام، بأن جعله وابنه إسماعيل مسلمين، وجعل من ذريته أمة مسلمة لله، وبعث فيهم رسولا منهم، هو محمد رسول الله خير الأنام ومسك الختام. والناظر المدقق في القرآن الكريم يجد أن فلسفة الدعاء مع العمل الدوءب والامتثال الكامل لله تارة، والامتثال مع طلب الاستفسار بأدب جميل يليق بالذات العلية عن الأمور المحيرة تارة ثانية، والتوكل على الله، واحترام أقدار الله في الكون والخلق والناس تارة أخرى.. كانت هذه الأشياء منطلقات ومرتكزات، خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام في حياته التي كانت مليئة بالابتلاءات.. والمدقق أيضا يجد أن خبرة إبراهيم عليه السلام وثقته المطلقة في الله جعلته يتمادي في عبادته بالدعاء، ويكاد يوقن –من فرط ثقته الكاملة- أن دعاءه مستجاب من الله بدليل قوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً)، وطلبه في ذات الوقت أن يبعث في الأمة المطلوبة التي لم تأت أن يبعث فيهم رسولا منهم (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ).. * * * البشارة الثانية: وبشرى أخي عيسى: إن منهج الله في التدرج واضح في كل شيئ بيد أنه أكثر وضوحًا في إرساله للرسل، فما من نبي إلا بُشرت به أمته قبل مجيئه، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) موصوفًا في التوراة والإنجيل، حتى إن القسيسين والرهبان والأحبار ليعرفون صفته وشكله وهيئته أكثر مما يعرفون أبنائهم وأهليهم. قال تعالى في القرآن على لسان عيسى (عليه السلام) : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ) (الصف:6). * * * البشارة الثالثة: بشارة بحيرا الراهب: ومن ضمن البشارات أيضا بمجيئه، أنه (صلى الله عليه وسلم) لما ذهب مع عمه أبى طالب للتجارة إلى الشام، ومروا بالراهب بحيرا، وعندما رأه بحيرا قال: هذا سيد العالمين. هذا رسول الله الذي يبعثه الله رحمة للعالمين؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. فقال له أشياخ قريش وما أعلمك بهذا؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من مكة والغمامة تظله فوق رأسه، وما من حجر ولا مدر ولا شجر إلا خرَّوا له ساجدين ولا يسجدون إلا لنبي، ثم ذهب ليصنع لهم طعاما إكراما لمحمد، فلما أتاهم بالطعام كان محمد عليه السلام في رعاية الأبل، فأرسلوا إليه ليأتيهم، فتحرك إليهم والرعاية الربانية والعناية الإلهية قد هيئات له الغمامة لتظله فوق رأسه وتقيه من لفح الحرارة الشديدة. فأقبل إليهم وعليه غمامة تظله. أقبل عليهم ومعه ارهاصات النبوة (مُقدِمات النبوة). وكانوا قد سبقوه إلى ظل شجرة فلما وصل إليهم وسلم عليهم وجلس، مال ظل الشجرة عليه وتركهم. وصدق فيه قول الشاعر: يا من خُلقت مبرأ من كل عيب كأنك خلقت كما تشاء وأجمل منك لم تر قط عينى وأعظم منك لم تلد النساء * * * البشارة الرابعة: بشارة هرقل ملك الروم: عندما أتي كتابُ رسول الله إلى هرقل ملك الروم، وكان هرقل عالمًا بالنجوم والكهانة فقال لقومه: "رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملِك الختان قد ظهر -قيل إن الانسان عندما يولد، يولد معه نجم في السماء ويطفأ حينما يموت- ثم قال: وأن رجلاً من الذين يختتنون قد غلب نجمُه وسيملك العالم، وللتأكد من ذلك أرسل إلى عماله ليبحثوا أمر هذا النبي، فأرسلوا إليه أنه مختتن، وأنه يزعم أنه نبي، وقد تبعه ناس وخالفه ناس... فتيقن هرقل أنه النبي المنتظر.. فجمع عظماء الروم في قصر له، وأغلق عليهم الأبواب، وقال لهم: "يا معشر الروم: إذا أردتم الفلاح والرشاد، وأن يثبت ملككم فبايعوا هذا النبي" فهاجوا وماجوا ونفروا نفورًا شديدًا وحاولوا فتح الأبواب ليثوروا عليه ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك. فلما رأى ذلك وقد آيس منهم، فقال لهم ما قلت مقالتي هذه إلا لأختبر شدتكم وغيرتكم على دينكم وقد رأيت ذلك منكم، فسجدوا له ورضوا عنه. * * * البشارة الخامسة: بشارة سيف بن ذى يزن الحميرى أما البشارة الأخيرة هنا فهى عندما هزم سيف بن ذى يزن الحميرى، الحبشيين الذي احتلوا اليمن، وكان ذلك بعد مولد النبي (صلى الله عليه وسلم) فذهبت إليه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وكان على رأس وفد قريش عبدُ المطلب جد النبي (عليه الصلاة والسلام) فلما جاء دوره في التهنئة، قام فحّياه وهنأه بأبلغ عبارة.. وقال إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعًا، صعبًا منيعًا، باذجًا شامخًا وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، ونبل أصله، وبسق فرعه في أكرم معدن وأطيب موطن فأنت -أبيت اللعن- رأس العرب وربيعها الذي به تخصب، وملكها الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه. نحن أيها الملك أهل حرم الله، وذمته وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة. قال: من أنت أيها المتكلم قال: أنا عبد المطلب بن هاشم قال: ابن أختنا، قال: نعم. فأدناه وقربه ثم أقبل عليه وعلى القوم، وقال: مرحباً وأهلا، وناقة ورحلا ومستناخاً سهلا، وملكاً ربحلا يعطى عطاء جزلا فذهبت مثلا. وكان أول ما تكلم به: قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأهل الشرف والنباهة أنتم، ولكم القربى ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم. قال: ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود وأجريت عليهم الأنزال فأقاموا ببابه شهرًا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف. وقال له إنى مفضٍ إليك بسرٍ من علمى فإنى فإنى أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي أدخرناه لأنفسنا، خبرًا عظيمًا؛ فيه شرف الحياة للناس كافة، ولقومك عامة، ولنفسك خاصة. قال عبد المطلب: زدنى أيها الملك. فقال الملك: إذا ولد مولود بتهامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: زدنى أيها الملك. فقال هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد يموت أبوه وأمه ويرعاه جده وعمه وقد وجدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا انصارا، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ويفتتح كرائم الأرض ويضرب بهم الناس عن عرض. يخمد النيران ويكسر الأوثان ويحطم الأصنام ويدحر الشيطان ويعبد الرحمن. قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله. فخرا عبد المطلب ساجداً قائلاً: " يا أيها الملك قد كان لي ابن احبه زوجته كريمة من كرائم العرب (قومه) فجاءت بغلام بين كتفيه شامة وفيه كل ما ذكرت من علامة. مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه ". فقال الملك: يا عبد المطلب احفظ ابنك من اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، اطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيبغون له الغوائل وينصبون له الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم.. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجر... فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته وبيت نصرته. ولولا أنى أخشى عليه من الآفات، وأحذر عليه من العاهات لأعلنت أمره على حداثة سنه، وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك.. ثم أمر لكل رجل ممن كانوا مع عبد المطلب بعشرة أعبد وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبراً. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره. فما حول الحول حتى مات ابن ذي يزن فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي فإذا قالوا له: وما ذاك قال سيظهر بعد حين. ورجعوا إلى مكة ثم لم يلبث عبد المطلب إلى أن مات وترك محمدا في كفالة عمه أبى طالب.