لست متأكدا تماما إن كان الرئيس السوداني عمر البشير جاد فعلا في إحياء وتعزيزالشريعة في السودان حال انفصال الجنوب بدعوى أنه لن يصبح هناك تنوع يستوجب استبعاد الشريعة ، أم أن إعلانه هو مجرد رد فعل انفعالي وتهويش بورقة الشريعة لإخافة الغرب والجيران حتى يتدخلوا لوقف الانفصال؟!خاصة أن تطبيق الشريعة لم يتوقف في السودان منذ بدء تطبيقها عام 1983. رغم عدم تأكدي الكامل إلا أنني أرجح جدية البشير في مسعاه نظرا لخلفيته وتربيته الإسلامية، وقد لمست بشكل شخصي مدى تمسك البشير بالشريعة خلال لقاء خاص جمعني به بصحبة المفكر الراحل عادل حسين رئيس تحرير جريدة الشعب وأمين حزب العمل الأسبق أواخر التسعينات، حيث كانت الحرب الأهلية في الجنوب على أشدها، بمشاركة كبار رجال الدولة الذين دفع بعضهم حياته فيها مثل وزير الصناعة محمد عمر، وكان الحصار على السودان من جيرانه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا محكما، ولكن في مقابل كل ذلك بدا البشير متماسكا، مدافعا صلبا عن الشريعة، كثير الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حول الفتن والابتلاءات، وضرورة الصبر والثبات تجاهها. لم يكن التوجه الإسلامي لدى البشير طارئا، بل يعود لسنوات دراسته الثانوية حيث كان منتظما في دروس العلم التي يلقيها رموز كبار للحركة الإسلامية مثل الدكتور صادق عبد الماجد المراقب العام للإخوان المسلمين بالسودان كما حدثني هو شخصيا، وظل الرجل محافظا على ثوابته الإسلامية، وظل مقيما لفترة طويلة ببيته المتواضع في إحدى ضواحي الخرطوم حتى بعد أن وصل إلى قصر الرئاسة. حين وصل البشير إلى السلطة في 1989 إثر انقلاب عسكري على حكومة الصادق المهدي التي بدت ضعيفة عاجزة عن مواجهة التمرد الجنوبي الذي كان زعيمه جون جرنج يبشر بأنه سيدخل الخرطوم على أنغام الموسيقى، واصل البشير تطبيق الشريعة التي بدأ تطبيقها في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري بدفع من الدكتور حسن الترابي الذي عين نائبا عاما للإشراف على ذلك التطبيق، ولكن حين اتجهت حكومة البشير إلى التفاوض مع قوات جرنج، خففت حديثها عن الشريعة، وعمدت إلى تطبيقها بعيدا عن ضجيج الإعلام. لم أقتنع بما قاله الرئيس البشير أن التنوع الذي استوجب وقف الشريعة من قبل لن يعد قائما بعد انفصال الجنوب المتوقع، حيث لا يزال هناك أكثر من مليون مسيحي في الشمال، لكن الصحيح أيضا أن وجود هؤلاء المسيحيين ليس عائقا بوجه تطبيق الشريعة التي سيقتصر تطبيقها على المسلمين دون غيرهم، كما أن وجود الجنوبيين من قبل لم يكن عائقا إذ لم تكن الشريعة تطبق في الجنوب، وما كان لها أن تطبق في الجنوب حال رغب الجنوبيون في استمرار الوحدة، وهذا هو سر اندهاشي من طريقة إعلان البشير عن نيته تطبيق الشريعة وكأنها لم تكن مطبقة من قبل!!. من حق أي رئيس دولة أن يتقرب إلى شعبه، وان يبحث عن المواقف والقضايا التي تحقق له هذه الرغبة المشروعة، ومن ذلك المبادرة إلى تطبيق الشريعة التي هي مطلب رئيسي للأغلبية المسلمة في كل مكان، ولكنني كنت أتوقع أن يقول الرئيس البشير |ن تطبيق الشريعة سيشمل جميع المسئولين دون استثناء، وأنه سيطبق الحدود بالفعل على وزرائه وأركان حكمه حال تورطهم في أي جريمة تستوجب حدا، وأن هذا التطبيق سيمنع وجود متلاعبين بأقوات الشعب، وسيمنع وجود شبكات الفساد والرشوة والمحسوبية، وسيسهم في رفع إسم السودان من الدول الأكثر فسادا. ما يهمنا أكثر هو أن مصر الرسمية أبدت قلقا كبيرا من تطبيق الشريعة على حدودها الجنوبية في السودان، وعلى حدودها الشرقية في غزة التي إحتفلت هذا الأسبوع بمرور عامين على دحر العدوان الإسرائيلي عليها، ولا أرى أي مبرر موضوعي لهذا القلق، اللهم إلا خوف لصوص المال العام، وأساطين الرشوة والفساد، وعتاة الاستبداد من تطبيق بعض الحدود عليهم، أما أغلبية الشعب المصري فقد أعلنت موقفها المؤيد لتطبيق الشريعة منذ سنوات عديدة ولا تزال تؤكد هذا الموقف يوما بعد يوم، كما أن التعلل بوجود مسيحيين يعوق تطبيق الشريعة هو عذر واه، لأن الشريعة لن تطبق عليهم، وإن ظلت خيار مفتوحا لهم يلجأون إليها إذا كانت في صالحهم كما حدث مؤخرا في قضية الزواج الثاني.