لم أتخيل ولم أتمنى أن أرى أسوان بهذه الحاله التى دمعت لها عينى وقلبى يعتصر حزناً على هذه المدينة الضاربة بجزورها فى أعماق التاريخ، ولأول مرة لا أشتم عبق التاريخ الذى كانت تفوح بها أركانها ، فبعد ثلاثة أعوام ونصف من اخر زيارة لى لأسوان وقد كنت فى شوق اليها لا يقل عن شوق العاشق لمعشوقته أو الطفل لحضن أمه، لكنى لم أراها فى هذه المرة، لم أرى ضفائرها التى تتدلى وكأنها تتدلل على صفحة النيل الخالد، ولم أرى الابتسامة على وجنتيها الناضرتين ، لم ارى سوى أرملةٍ حزينه يتوراى جمالها خلف ثيابها السوداء القاتمة، وقد كسى الحزن وجهها ، وأصبحت كلماتها ثقيلة تخرج وهى مكبلة بأغلال الحزن، لأاول مرة لا أسمع صوت العقاد يتسلل من مقبرته وهو يتغنى بهوى أسوان. سالت نفسى؟ اين اختفت تلك البسمات من أصحاب البشرة السمراء بعيونهم اللامعه وهم يغازلون النيل بمجاديف فلوكتهم، وهم يتعاملون مع زوار أسوان سواء من العرب أو الأجانب .. اقتربت من واحد منهم وسألته ما الذى جرى ؟ أين ذهب أحباب اسوان من السائحين؟ فرد على بكلمات ثقيلة أثقلتها الهموم!! ربنا يرحم ايام ذمان يا بيه !! قول للزمان ارجع يا زمان!! لم استطع ان اتواصل معه فى الحديث ، فلم أجد كلاما ارد به عليه ! ودعته وكاننى اودع اسوان كلها بتاريخها الذى أعشقه . قبل ان أصل الى أسوان وقد خططت لزيارتى ألا تذيد عن يومين، ووضعت لنفسى برنامجا للزيارة وضعت فيه ترتيباً للأماكن التى سأزورها ، وجعلت زيارة السد العالى من أخر الأماكن التى سازورها نظراً لبعده عن المدينه، ولأنى كنت أحب أن أجعل اخر ما يقع عليه بصرى ويعلق بذاكرتى هو تدفق النيل العظيم وكأنه قرر أن يلقى بنفسه بين أحضان مصر بعدما قطع كل هذه المسافه قادما من من البحيرات العظمى وبحيرة تانا ليلتقى رافداه فى السودان ثم الى محطته الاخيره قبل ان يعانق المتوسط، ووضعت أيضا فى برنامجى زيارة المتحف النوبى على الرغم من أنى زرته من قبل لكنى لا استطيع أن اغادرأاسوان دون أن القى نظرةً على ذلك التراث النوبى العظيم، أيضا جعلت زيارتى لجزيرة النباتات (الحديقة الاستوائية الدولية) تتوسط يومى لأستريح قليلا وقد أتناول غدائى وانا أستمتع بمشاهدة أندر النباتات التى يمكن رؤيتها، والتى حاولت فى المرات السابقة أن أحتفظ بأسمائها فى ذاكرتى لكنى فشلت فى ذلك فلم يكن لى بد من تسجيل بعض اسماء النباتات مثل : الكازميرو، والباباظ، والجاك فروت، والبشملة، والوينكا روزا، و الجارونيا، والجريبيرا وغيرها من النباتات التى تشغل جزيرة وسط النيل.. كان هذا هو برنامج اليوم الاول ولم اشغل بالى باليوم التالى . وصلت الى مجمع المواقف فنظرت من حولى بحثاً عن عربة حنطور فمن خلالها ستكون فرصتى أكبر فى الاستمتاع بمراجعة معالم أسوان على مهل، لكنى لم أجد عربة واحده فلم يكن لى بد فى استقلال سياره أجره فانطلقت بى وبمجرد ان دلفت بى الى داخل المدينه لم اتمالك نفسى وبحركة تلقائية سددت أنفى فلم أستطع ان أشتم تلك الرائحة العفنه التى تنبعث من أحد مصانع المياه الغازيه فسألت السائق ؟ ايه الريحه دى؟!! فقال لى دى ريحة مصنع البيبسى !! كان هذا الانطباع بعد انقطاع عن زيارة أسوان كفيل بأن يثنينى عن استكمال زيارتى فهكذا أصبح اول القصيد كفر كما يقولون .. هبطت من السيارة على مسافة من المتحف النوبى فتعثرت اقدامى فى اكوام من القمامة على مقربة من كورنيش النيل وذلك بخلاف ما يرسو من قمامة على حافة النهر وقد تغير لون ماء النيل الذى خلا من المراسى العائمة والبواخر السياحية لتترك حافة النهر فريسة للمخلفات وأنواع من القمامة. دلفت الى داخل المتحف النوبى الذى أنشأته منظمة اليونسكو في مصر لعرض الأثار الخاصة بالحضارة النوبية القديمة، وكذلك يتضمن معلومات عن تاريخ النوبة من عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحالي، مع استعراض لأهم العادات والتقاليد النوبية، واللغة النوبية العريقة، لم اشعر بذلك الشعور الذى كان يخالجنى فى الزيارات السابقه فقد كان المتحف خاويا على عروشه ، ولم يكن بداخله سواى والعيون تتفرسنى باستغراب على غرار ما كتبه الشاعر الفرنسى موباسان فى خطاباته الفارسية، فخرجت ولم اكمل اكثر من خمس دقائق فلذة الزيارة ان ترى غيرك من الزوار والا تحولت الزيارة الى نوع من العزله التى يكرهها الانسان بوازع من فطرته، خرجت من المتحف ولم التفت الى البيت النوبى الموجود فى حديقة المتحف والذى يحتوى على الادوات التى كان وما زال يستخدمها اهل النوبة وهم متمسكون بها الى يومنا هذا. توقفت قليلا على كورنيش النيل متأهبا للعبور الى الضفة الاخرى حيث توجد جزيرة النباتات، فوجدت الفلوكه وقد أرخت سدولها على صفحة النهر ، ولم أستمع الى تلك الكلمة التى كانت تتكرر من أصحاب المراكب وهم ينادون على الزوار بتلك الكلمه التى يفهمه الناس جميعا .. فلوكه ..فلوكه ..فلوكه ، والزوار يتزاحمون وهم يقفون فى طابور طويل وكل واحد منهم ينتحى بصاحب القارب الشراعى ليتم الاتفاق على تكاليف الرحله الى جزيرة النباتات ذهابا وايابا، وجدت أعدادً هائله من المراكب(الفلوكه) راسيه على ضفة النهل وقد أرخت اشرعتها، فتراجعت عن فكرة الذهاب الى جزيرة النباتات وعدت أدراجى كما اننى قررت ان أرجأ زيارتى الى الخزان أسوان والسد العالى الى وقت اخر وقد تفلت منى برنامج الرحله دون أن أدرى .. قد أعود مرة اخرى لكن عندما تعود أسوان بل عندما تعود مصر من غربتها.