حالات اللغط والجدل المصاحبة لدستور مصر الجديد والمعدل مفادها أن مصر الآن أمام قضيتين مهمتين ؛ قضية الثورة وقضية الدولة ، فمن المواطنين من يرى أن مصر لا تزال تسير في الركب الثوري وأن التوقيت لا يصلح لتدشين تصويت شعبي على دستور ينظم ويحدد العلاقات الأساسية لشكل الدولة وينظم السلطات العامة فيها ، ذلك لأن قطاعاً كبيراً من الشباب الجامعيين ونشطاء الحركات الاحتجاجية يصرون على رسم معالم حقيقية لثورة يناير التي هبت نسائمها منذ ثلاثة أعوام . بينما يرى الفريق المؤيد للإجراء السياسي الراهن وهو التصويت على الدستور أنه حجر زاوية مهم في الانتقال من الثورة إلى الدولة ، ظناً منهم بأن فعل الثورة هو فعل طويل لا ينتهي طالما أن المطالب والمصالح الفئوية متجددة وهذا يعطل خارطة الطريق لبناء الوطن. وحينما نستقرئ المشهدين مشهد الثورة ومشهد الدولة نجد اختلافاً بائناً في اتجاهات المواطن نحو الممارسات السياسية الراهنة والتي أصبحت الملمح الأهم والأبرز في حياتنا . ولا شك أن للمؤيدين فلسفة في اختيار قضية الدولة المتمثلة في مشروع الدستور الذي يمكن توصيفه بالمعدل والجديد معاً ، فهم يرون أن الانتهاء من إعداد دستور مصر هو أول خطوة فارقة في البناء السياسي ، في الوقت نفسه الذي ينبغي الإشارة إلى أنه دستور أعد في بيئة سياسية واجتماعية تتسم بالفوضى والاضطراب وعدم التوافق المجتمعي وإن توافقت آراء لجنة الخمسين التي قامت بصياغة مواد الدستور . وهؤلاء يطرحون مجموعة من الأسئلة التي تنتهي إجاباتها جميعاً بالموافقة مثل ما الخوف من دستور يؤسس لدولة مدنية حديثة ومستنيرة ؟ ، وما القلق من دستور لم تصنعه جماعة سياسية أو فصيل حزبي معين ؟ وأخيراً ما الهاجس من تجربة سياسية قابلة للتطوير والتعديل ما دام الوطن باقياً؟ . والذين يذهبون ويروحون شمالاً وجنوباً للحصول على أكبر نسبة تصويتية بالموافقة على الدستور ومواده يؤكدون على ضرورة النظر إليه بعيداً عن الرهانات السياسية القائمة اليوم من قانون ينظم حق التظاهر والمواكب والاجتماعات ومن اضطرابات سياسية هائلة باجامعات ومن حرب ضد الإرهاب ومن معارك سياسية ومجتمعية بين النظام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين ، وهم في الوقت نفسه مدركون أن إحدى الأزمات التي تواجه مصر اليوم هي غياب البدائل فلا مناص من إنتاج دستور يقنن أحوال المواطن في وطنه ويرسم خارطة تنظم الحقوق والواجبات فيه. لكن الدستور الجديد يظل يواجه عدة تحديات يمكن وصف بعضها بالشائك ، وتوصيف بعضها الآخر بالغامض ، فهناك شباب جامح يرغب في التغيير بصورة سريعة ولا يعبأ بمسألة المواد الدستورية والقواعد الشكلية من وجهة نظرهم والتي تحدد طبيعة الدولة لأنهم باختصار ينظرون إلى مدى بعيد عن رؤية شيوخ السياسة ، وهذا الشباب الطامح والغاضب أيضاً أصبحت طموحاته غير محددة وربما أحياناً غير منضبطة وهذا ما يؤكد إلى أن التعامل الأمني غير ذي فاعلية مع مطالبهم ومطامحهم السياسية ، حيث إن التعامل الأمني معروف أدواته وتقنياته وآلياته التي لا تخرج عن تعطيل وإبطال مطامحهم وجنوحهم السياسي لأنهم ظلوا معطلين سياسياً أكثر من أربعين سنة ويزيد . وأمام تحدٍ آخر يواجه الدستور وسدنته حملة منظمة من جماعة الإخوان المسلمين التي لا يعرف المواطن مدى مشروعيتها القانونية حتى الآن نظراً لتفاوت التصريحات الرسمية إزاءها ، فالجماعة وبعض الفصائل التي يطلق عليها الدينية السياسية تعد تيارات منكرة لواقعها المشاهد وهم في معركة مستدامة لعودة الرئيس المعزول إلى منصبه رئيساً للجمهورية ، وهؤلاء يفكرون بجدية في تعطيل أي مسار سياسي لبناء مؤسسات الدولة أو أي حراك ضمن خارطة الطريق من دستور جديد وانتخابات رئاسية وبرلمانية وقصة المصالحة التي تسيدت المشهد السياسي لأسابيع باءت بالفشل ومن الصعب اليوم إعادة عجلة المفاوضات والمصالحات للوراء والوطن يسعى لبناء جديد له . وهذه التيارات والفصائل المنكرة لواقعها السياسي لم تجد سلاحاً تواجه به الدستور الجديد سوى السلاح التقليدي المصري الصنع ، وهو سلاح الدين عملاً بالقاعدة التي تقول بإن الوطن لديه قصة غرام لا تنتهي مع الدين ، فيروجون أن مواد الدستور مخالفة للشريعة الإسلامية ويرتكزون على معضلة الصياغة بين الاحتكام إلى مبادئ الشريعة الإسلامية أم أحكام الشريعة الإسلامية ، وإذا كانوا هم يعانون من حالة إنكار للواقع السياسي فهم يعانون داءً آخر وهو إنكار واقع المجتمع الذي لا يفطن الفرق بين المبادئ والأحكام من ناحية ، ولا يدرك حقائق وضوابط تطبيق الشريعة وفقاً للفهم والتأويل من ناحية أخرى ، بجانب الطبيعة المصرية التي تظل نفسها مشدودة لفعل الدين بغير نصوص سياسية تضبط علاقة المواطن بعقيدته.ورغم ذلك فإن المواطن البسيط الذي زُج به قهراً في المشهد السياسي لا يكترث بالنص الدستوري بأن المبادئ المراد بها في الدستور هي المبادئ قطعية الثبوت وقطعية الدلالة ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل الكتاب والسنة ، ذلك باختصار لأنه أصبح فريسة سائعة الافتراس من الفصائل والتيارات والمذاهب التي خرجت علانية عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير. والمقارنة المرهقة بين الدستور الجديد والدساتير المصرية الضاربة في القدم منذ 1882 تعد من أبرز التحديات التي تواجه العمل السياسي الذي قدمته لجنة الخمسين وما أسفرت عنه جلسات الاستماع الطويلة زمنياً ، لاسيما وأن الضابط الرئيسي في نجاح دستور 2013 هو أن يعمل أبناء هذا الوطن بإخلاص وجدية ، وحينما نستهدف بعض المواد المتعلقة بالإنفاق على التعليم والتعليم العالي والصحة والبحث والتطوير العلمي ، نكتشف على الفور أن محك النجاح لهذه المواد وما خصص للإنفاق من الناتج القومي الإجمالي هو ما ينتجه الوطن . وقضية الإنتاج والعمل من المشاهد التي ربما لم يصلها قطار الثورة والتثوير حتى الآن ، فكلامنا كثير ، والعمل لا يزال متعلقاً ومشدوهاً بممارساتنا السياسية كثيرة الجدل والجدال ، والوطن وإن كان بحاجة إلى إجراءات.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.