أحد المواقع الالكترونية العربية أجرى استفتاء سبقت فيه الدراما المصرية كلا من السورية والخليجية بعد أن كانت ثالثتهما في رمضان الماضي. أميل إلى أن المصريين لم يشاركوا بأعداد كبيرة في هذا الاستفتاء فهم على عكس ما يظن البعض ليسوا مهمومين بالدراما المصرية ولا يعنيهم أن تكون في المقدمة أو في المؤخرة. المشاركون معظمهم من الدول العربية الأخرى التي لا تعرف فيها رمضان إلا بالمسلسلات التي تطل من الشاشة، بينما لا ترى مظاهره التعبدية إلا قليلا. في مصر الأمر مختلف تماما. المساجد عامرة بالمصلين العابدين في كل مواقيت الصلاة ومعظم الليل. من يرها في المدينتين الكبيرتين القاهرة والأسكندرية سيعتقد أنه لم يبق أحد في بيته أو في الشارع، ومع ذلك ترى الشوارع مزدحمة بالمتسوقين وبالمارين والمتفرجين، فمن يشاهد المسلسلات إذاً ومن تعنيه الدراما أو متابعة القنوات الدرامية المتعددة التي وفرها إتحاد الإذاعة والتلفزيون كالنيل للدراما وشرحها 2 وزائد 2 لتتسع لكل هذا الكم الهائل من الإنتاج الدرمي بالاضافة إلى القنوات الخاصة كبنوراما دراما وميلودي دراما وشرحها ميلودي دراما 2 وقنوات الحياة ودريم والمحور ومودرن والقاهرة دراما. ليلة أمس كانت كل الشوارع المتفرعة من كورنيش الأسكندرية ملأى بالمصلين الذين يؤدون صلاة التهجد بدءا من محطة الرمل في الأسكندرية مرورا بمسرح محمد عبدالوهاب الذي ما يزال تعلوه مسرحية لمحمد نجم كان يعرضها قبل الشهر الفضيل ونهاية بمكتبة الأسكندرية، وراء إمام واحد نقلت صوته مكبرات الصوت إلى كل هذه المناطق بما فيها المسرح نفسه. الساعة الثالثة وخمس دقائق صباحا كان ما يزال الركع السجود يملأون شوارع الورديان في الأسكندرية أيضا. ورغم محاولات حمدي زقزوق وزير الأوقاف كتم صوت الأذان عبر مشروعه الذي يسميه الأذان الموحد والذي لا نعرف له مبررا سوى مزيدا من الإنفاق والتبذير على أشياء لا حاجة لنا بها.. فإن أصوات الأذان تملأ سماء العاصمة منطلقة من مساجدها العامرة التي لم تعد ألف مأذنة فقط كما اشتهرت في الماضي فهناك عشرات الآلاف من المآذن التي تقف شامخة تنطق اسم الله في الفضاء الواسع خمس مرات في اليوم. حالة التدين المتصاعدة تجعل ألسنتنا تنطق ما شاء الله والحمد لله.. فمن الصعب وربما المستحيل أن تجد إمرأة واحدة كاشفة الشعر في المحروسة وفي الأسكندرية، وبالطبع في الأقاليم والأرياف. المساجد كثيرة جدا فبلدتي التي هي نجع صغير من قرية قامولا الكبيرة بها ثلاثة مساجد بعد أن ظلت فترة طويلة حتى تسعينيات القرن الماضي بمسجد واحد أهلي ومحدود العدد، وأتذكر أنني كنت في طفولتي وصباي أذهب إليه مشيا على الأقدام أو ممتطيا ظهر حمار لكي أصلي فيه بعد أن انتقل بنا والدنا إلى بيت آخر يتوسط أراضينا الزراعية في منطقة يسمونها "الحرجة" وفي أول عملي بالصحافة كلفني الأستاذ عبداللطيف فايد نائب رئيس تحرير جريدة "الجمهورية" بتغطية أخبار وزارة الأوقاف، فطلبت من فضيلة الدكتور الأحمدي أبو النور وزيرها في ذلك الوقت بناء مسجد في "الحرجة" التي لم يكن يعرف بالطبع موقعها على الخريطة، وسرني أن استجاب لي فورا وحول طلبي إلى الجهات المختصة بالموافقة والشروع في البناء فورا، وهو ما لم يستغرق انجازه شهورا قليلة. وبذلك العمل أكملت أربعة مطالب لأهل قريتي الفقيرة النائية. فقد كانوا يريدون مدرسة إبتدائية بدلا من التي أكلتها دودة "القرضة" وكنت أدرس فيها، فوفقني الله لأن أكون الأول في الابتدائية على محافظة قنا وكافأني المحافظ أيامها المرحوم الفريق عبدالسلام توفيق عشرة جنيهات، فرفضتها بمبادرة طفولية غير مصطنعة لم يوصني بها أحد، فسألني بحنان الأب: طيب طلباتك إيه؟!.. فقلت مدرسة جديدة.. فسألني وماذا أيضا؟.. قلت: مياه نقية.. وماذا أيضا: فطمعت في ما هو أكثر وأكثر فقلت:: الكهرباء ورصف الطريق. تحقق كل ذلك في وقت وجيز برعاية من المحافظ والدكتور صلاح إسماعيل أمين عام الإتحاد الإشتراكي العربي بالمحافظة في ذلك الزمن الجميل ووزير التربية والتعليم المرحوم علي عبدالرازق الذي قرأ هذه القصة في جريدة الأخبار بقلم الصحفي فايز بقطر فحكاها بفخر أبوي كأنني فلذة كبده للسيدة سامية صادق في برنامجها الشهير "فنجان شاي" الذي كانت تقدمه في إذاعة القاهرة. وفيما بعد تأسست وحدة صحية وقرية نموذجية وزعت مساكنها بلا مقابل على الأهالي حماية لهم من الدودة التي أكلت بيوتهم. لماذا ربطت ذلك بالتدين المتصاعد؟.. لاحساسي بأن الشعب المتدين في حاجة إلى حكام يعرفون الله ويعرفون حاجات الوطن ليوظف ذلك كله في خدمات يحتاجها المواطن وتروي عطشه. التدين وحده لا يكفي لحماية الشارع من اللصوص ولوأد الفساد. الرعية الصالحة لابد لها من راع صالح يأخذ بيدها ويسألها عن ما ينقصها وما يمرضها وما يزكم أنفها. كنت أسير فخورا وسط قريتي متذكرا الماضي حين لم أكن أبصر وأنا في طريقي لمدرستي سوى المقابر والبيوت المتهالكة وأحمد الله أنني كنت سببا في ما آلت إليه الأحوال.. لكنني تساءلت بأسى هل لو كنا في الزمن الحالي كان تحقق ذلك بكل السهولة واليسر وبدون دورة أوراق تذهب وتجيء وتنتهي من غير نتيجة؟! وكأن من يسير بجانبي سمع حديث نفسي فقال لي: على بعد أقل من كيلو متر واحد إلى الغرب من "نجع البركة" في الجبل بنيت قرية جديدة لكن مساكنها مهجورة لم يطأها ساكن حتى الآن. سمع صاحبي أن السيد جمال مبارك هو الذي أمر ببنائها، لكنها لكي توزع لابد من أوراق تثبت حاجة من يحتاجها، ثم لابد من مقدم يدفعه وأقساط يدفعها على فترة معينة.. وفوق كل هذا وهذا لابد من واسطة! أشياء يفتقدها بالطبع أهالي قرانا الغلابة الفقراء.. فبقيت القرية الجديدة مهجورة إلا أن تكون ذئاب الجبل قد عرفت طريقها. وكل رمضان ومصرنا الحبيبة بألف خير. [email protected]