هو أول مقال نشر للعلامة عبد السلام هارون ظهر بصحيفة الأهرام ( بتاريخ 22 مايو 1935م أي منذ 75 عاما ) يتحدث فيه عما أصاب الفصحى ودور المؤسسات في النهوض باللغة العربية ووسائل مقاومة العجمة . *** اللغة العربية .. صراع للعُجْمة وفَوزٌ في المعركة العلامة : عبد السلام هارون إن التفاؤل الذي تسرى نشوته في أنصار اللغة الفصيحة وحركات التطهير التي تنبعث من كل صوب ، تبغي القضاء على تلك الفوضى التي أصابت لغتنا الكريمة لما يبشر بازدهار الفصحى وتفوقها على العامية . لقد كنا لسنوات مضت يستحي منا المتكلم أن يدخل القاف العربية في تضاعيف كلامه ، وهو إن تَجاسر مرة ، وُجِّهت إليه سهام السخرية ، ولكنه اليوم ينطق بها فخورًا ، وجرت القاف اليوم أيضًا على ألسنة الكريمات فَزِدْنَها جمالاً ، واقترب حينُ القضاء على تلك العجمة الساخرة . ومبلغ الظن أن لغة لم تصب بمثل ما منيت به اللغة العربية في مصر ، من تطفل العناصر الغريبة عليها ، فتجد اللفظ التركي إلى المصري واليوناني ، إلى الإيطالي والفرنسي والإنجليزي والفارسي والأسباني والفينيقي ، وبعض اللهجات العربية الوضيعة . ومرجع ذلك – فيما يظهر – إلى اضطراب حبل السياسة في تلك العصور الغابرة ، وتواتر الغزوات والهجرات الطامعة في خصب مصر ونعيمها . وقد كان داء العجمة مُستفحلاً فيما مضى ، إذ لم يكن هناك وسائل جدية لمقاومته ، فلم يكن له بد من أن يستطير وينشر ظله الثقيل في كل مكان يحل به ، وأضف إلى ذلك ما طُبع عليه المصري من كرم وتسامح ، ولين جانب ، أطمع فيه ضيفه فألقى بأحمال لغته في تلك الساحة الكريمة ، ثم أبى أن يرحل بها ! * * * أما الآن فهناك وسائل تتعاون جميعًا على تلك المقاومة . وتبدو لنا في تلك المدارس العامة المنتتشرة في أرجاء القطر . وهي لو جرت على النمط القويم في معالجة ودائعها لنهض جيل يدور لسانه بلهجة ظاهرة ، ومنطق سليم ، ولكن أمام المدرسة عقبات كأداء ، أهمها البيت . - فلغة البيت : لها تأثيرها القوي في أعصاب أطفالنا وفتياتنا ، والبيت هو المعهد الأول الذي يثقف فيه الصبي لغته وكلامه . لذلك كان من الواجب الوطني والقومي أن نقضي على هذا المرض بأنفسنا في بيوتنا ، وقد ذهب عصر الظلمة ، ونام أذناب العجمة العاجزون . ومما يؤذن بالنصر أن نرى البيت اليوم يطرح وراء جدرانه كثيرًا من تلك الهمهمات المنقرضة ، ليفسح المجال لهذه اللغة الكريمة . - والصحف الذائعة : مفخرة من مفاخر جيلنا ، ولها السلطان الأعظم على المتعلمين وتوجيههم نحو الفصحى ، بدعايتها المستمرة ، وقدوتها الصالحة ، وقد خصص بعض منها صفحات محترمة للانتقادات اللغوية ، وهي وإن سارت أحيانًا إلى حد الإسراف ، فهي ذات أثر بين في لغة الكاتبين . وقد كانت إلى عهد قريب تتسامح في نشر الإعلانات باللغة العامية ، ولكنها اليوم قد أبعدت هذا التسامح . وأبت عليها كرامتها أن تخط حرفًا عاميًا إلا لضرورة قصوى . ومن دواعي الغبطة أن نشهد فلاحنا المصري ذا الجلباب الأزرق ، قد ضم إليه صحيفة يومية أو مجلة مصورة ، وهو لا جرم ، يختلط لسانه بكلمة أو كلمات مما قرأ فينشرها بين عشيرته وذويه ، رسالة طاهرة مباركة . - ودور الخيالة والتمثيل سلاح ، ولكنه اليوم ذو حدين ، ونرجو في القريب أن يبقى على حد واحد يصرع تلك العجمة بما له من عظيم التأثير والمصريون من أصحاب تلك الدور لهم رقابة من أنفسهم على جهادهم الذي يكلل بالظفر ، أما الأجانب فما على حكومتنا الرشيدة إلا أن تمدهم بتراجمة اختصاصيين يعملون على إبعاد تلك المزعجات ، من هذه الأساليب الهلهالة ، والتعريب المضحك المبكي ، فإن أعجزها ذلك فلا أقل من أن يكون انتخاب هؤلاء تحت إشرافها ورقابتها . - والمطابع وسيلة فعالة ، وإن ما تقوم به دار الكتب المصرية من إحياء الآثار العربية ، لمجهود مثمر ، لكنه تعوزه السرعة في الإنتاج ، وذلك لا يكون إلا بكثرة الأشخاص العاملين ، والكفيل به أن تزيد وزارة التعليم في مخصصات هذه الدار حتى تضطلع بمهمتها . أما أمر المطابع الأخرى فمن الخطل أن يسند أمرها إلى قوم لا يعرفون الكتابة ، وهم إن عرفوها لم يتجاوز أحدهم بمعرفته أن يكتب سند التسلم والتسليم . ذلك شأن معظم أصحابها – وإن كان فيهم العالم الجليل ، والأديب الكبير ، والإمام الديني ، وفيه الضرر كل الضرر من تشويه معالم اللغة وتحريفها بحيث يخفى ذلك على الكثيرين . فمن المستحسن إذن ألا تسمح الحكومة بإدارة مطبعة إلا لشخص حَصَل على ثقافة تؤهله لذلك . وكما تجتهد الحكومة في محاربة المشعوذين والمحتالين يجب ألا تأذن بنشر تلك الوضعية التي تفسد الخلق قبل أن تفسد اللغة ، وتلك النشرات التي تؤذى السمعة المصرية في الخلق واللغة كذلك . * * * بقي أمران محدثان : أما أولهما : فهو هذا ( المذياع ) الذي يطالعنا في كل صباح ومساء بمحاولاته القيمة في هذا الجهاد اللغوي ، وهو فتح جديد للغة الفصيحة وودنا لو عنى المحاضرون بفحص ألفاظهم وأساليبهم ، فحصًا دقيقًا قبل إلقائها ، فإن من المؤسف حقًا أن تصغي إلى كاتب من أكبر كتبانا ، أو أديب من أشهر أدبائنا فلنرى الأخطاء تشيع في كلامه . وهو هو القدوة المتبوع ! ومن الأمور الواجبة أن تؤلف لجنة فنية دائمة بمحطة الإذاعة ، تكون مهمتها الإشراف على لغة المحاضرات . أما مندوبو الحكومة فمن اليسير أن تختر محاضراتهم في إدارة المطبوعات ، وبها من جمهرة الأدباء من لا يستهان بشأنهم . وأما المذيعون بالمحطة وهم من صفوة الشبان . فإنه لا يرضيهم أن يقال عنهم أنهم يخطئون في الكلام المعتاد . أما الأمر الثاني : فهو ذلك الاتحاد الشرفي ، المتمثل في المجمع اللغوي الملكي ، وهو سيف العربية القاطع في تلك المعمعة ، وقائدها البصير ، وهذه تباشير فجره يهلل لها أنصار الفصيحة ، لكن دعايته إلى الآن لم تتجاوز إصدار الجزء الأول من مجلته ، ولم يعرفها إلا خاصة الخاصة وذلك لعسر طريقة الحصول عليها ، وأجدر بمجتمعنا أن يعمل على تذليل تلك العقبة . وفي اليقين أن هذه الدورة الثانية ستنتج إنتاجًا فعليًا له ما بعده ، وإن المجمع سوف لا يدع وسيلة من طرق الدعاية إلا تعلق بها . هذه هي وسائل مُقاومة العُجْمة ، التي تحدّ من أفكار الكثير من كتابنا ، وتذهب بمجهود أساتذة اللغة العربية أدراج الرياح . وإن يوم اليوم النصر لتخفق أعلامه الساعة فوق ربى النيل والفرات وبردي ، وسائر الأقطار العربية الشقيقة . عبد السلام محمد هارون