ما حدث في موضوع البند الأول من خارطة المستقبل ، وهو المتعلق بالدستور الجديد يكشف عن أن الأمور تتخبط بالفعل في يد المجموعة الحاكمة الآن ، وهناك فقدان تام للرؤية الجادة للمستقبل ، وإحساس غائب بالمسؤولية ، وأعتقد أن هذا مما يزيد العبء على المؤسسة العسكرية وعلى الفريق السيسي شخصيا ، لأنه في النهاية الذي سيحمل هذه "الشيلة" على ظهره وسيكون مطالبا وحده بتحمل عواقبها ، فلجنة الخبراء التي وضعت التعديلات كانت أشبه بالتنظيم السري ، في تشكيلها وفي عملها وفي معاييرها وفي سياساتها وفي رؤيتها وفي جدلها وحتى نتائجها المعلنة ، حتى كان كثيرون في كل الاتجاهات يتساءلون بغرابة ، ما الذي تعمله هذه المجموعة السرية وتخاف من اطلاع الناس عليه ، وتلك روح مناقضة تماما لطبيعة العمل في دستور يهم كل مواطن وكل خلية من خلايا المجتمع ، ثم أتى قرار تشكيل لجنة الخمسين التي ستقرر النص النهائي الذي يعرض للاستفتاء مكملا لهذا المسار المتخبط ، ووضح أن هناك بعض القوى السياسية تنتهز الفرصة لكي تتعامل بمنطق "الكوتة" التي تنتزعها في مؤسسات الدولة ، ووضع أن اليسار المصري تحديدا ، بشقيه الاشتراكي والناصري يستحوذ على مساحات واسعة للغاية من المؤسسات الجديدة ، وهي ملاحظة أعتقد أن دلالتها أكبر من تلك الجزئيات ، وربما تتعلق بأفكار يقدمها بعض "العواجيز" للمؤسسة العسكرية تستلهم تجارب ماضية ثبت أنها انتهت بمصر إلى الكوارث ، المهم ، أنا أقدر أن كتابة الدستور لا تتعلق بالأقلية ولا بالأغلبية بقدر تعلقها بتمثيل كامل للمجتمع ونشاطاته ، ولكن يبقى الاختيار في هذه النشاطات له دلالة ، فعندما ترغب في تمثيل الشباب فهذا مطلب جيد ورائع ، ولكن لماذا شباب التيار الناصري وحده الذي يتمثل بشخصين ، هل ملايين الشباب المصري هم هؤلاء الناصريون ، وأنا هنا لا أتحدث عن تمثيل شباب حركة تمرد مثل محمود بدر أو محمد عبد العزيز ، فهم شباب مغامرون وقدموا فكرة استفاد منها قوى وأجهزة عديدة لإنهاء حكم الإخوان ، هذا صحيح ، لكن تمرد ليست تنظيما سياسيا ولا حزبا ، هي فكرة ناجحة أدت غرضها في ظرف زماني محدد وانتهت ، وهؤلاء الشباب لو ترشح أحدهم في مجلس محلي فلن يختاره أحد ، الناس تفاعلت مع تمرد كفكرة وليس كتنظيم ، وبالتالي لا يصح تضخيم هؤلاء الشباب ودورهم بحيث يكونوا هم الممثلون لملايين الشباب المصري من كل التيارات ، هذا عبث ، ويعني أن المسائل تمثل توزيع "تورتة" على الفائزين في معركة الإطاحة بالإخوان وليس صناعة مستقبل دستوري يليق بمصر ، أيضا فإن وجود ثلاثة أشخاص يمثلون أحزاب اليسار المصري ، في حين لا يوجد من يمثل أحزاب التيار الإسلامي إلا شخص واحد ، هي مسألة لا يمكن تفسيرها بأي أخلاق سياسية أو منطقية ، فحزب التجمع على سبيل المثال الذي يمثله زميلنا حسين عبد الرازق لم يحقق في أي انتخابات برلمانية طوال الأربعين عاما الماضية أكثر من واحد في المائة ، بينما حزب النور حقق أكثر من 25% في البرلمان الأخير ، والدكتور محمد أبو الغار لم يصل حزبه وهو بالمناسبة حزب رئيس الوزراء الحالي لم يصل إلى واحد في المائة من القبول الشعبي في الانتخابات الأخيرة ، وباختصار لا يمكن أن تكون أحزاب أو تيارات حققت قبولا شعبيا ديمقراطيا بنسبة تصل إلى ستين في المائة يمثلها شخص واحد ، بينما أحزاب لم تمثل مجتمعة أكثر من واحد في المائة من الشعب يمثلها ثلاثة أشخاص ، هذا غير منطقي بالمرة ، كذلك مسألة تمثيل المرأة وضح فيها أنه ليس أي امرأة ، وإنما نوعية خاصة من النساء التي خدمت بتفاني سلطة جيهان السادات وسلطة سوزان مبارك وسلطات المجلس العسكري من بعدهم ، فهذا ليس تمثيلا للمرأة وإنما تمثيل لولاءات سياسية معينة ، أيضا ليس من المعقول أن يتم توزيع المناصب على رموز ناصرية ويسارية من المجلس الأعلى للصحافة للمجلس الأعلى لحقوق الإنسان ثم يكونوا هم أنفسهم في مجلس صياغة الدستور ، أيضا لا يمكن هضم معنى أن يكون المخرج السينمائي الشاب خالد يوسف ممثلا للمثقفين المصريين في كتابة الدستور ، وهو شخص لا يعرف له تاريخ ثقافي من حيث الأساس ، هو صنايعي سينما فقط لا غير ، وأظن أن بمصر من القامات الثقافية والأكاديمية الرائعة التي يمكن أن تمثل الثقافة في الدستور بشكل أمين وراق ومتحضر ، بل أتصور أن طرح اسم خالد يوسف هو إهانة حقيقية للثقافة والمثقفين في مصر ، أيضا لا يعقل أن يكون في اللجنة ممثل للفنون التشكيلية التي يهتم بها بضعة مئات بينما أربعين مليون فلاح مصري على الأقل ليس لهم من يمثلهم في الدستور . لا أريد أن تذهب بي الظنون بعيدا في التفسير التآمري للأحداث ، وأن أتصور أن هذه اللجنة قصد منها إطالة أمد الفترة الانتقالية أو دفع البلاد للبحث عن مسار آخر للمستقبل غير ما أعلن عنه في خارطة المستقبل ، لأن هذه اللجنة بتلك الروح والمشاعر العدائية لهوية المجتمع ستضع نصوصا لن يقبلها ملايين المصريين ، والغالب أنهم سيصوتون ضد اختياراتها وسيسقطون المشروع الجديد ، ليتم تعليق أي انتخابات أو خطوات عملية حقيقية إلى أجل غير مسمى ، وأتصور أن هذه الوساوس تتسلل الآن إلى أفكار بعض الرموز الوطنية ، أو هكذا فهمت من كلام الصديق الدكتور وحيد عبد المجيد الذي طالب بضرورة إصدار إعلان دستوري مكمل يلزم الدولة بإنجاز الانتخابات البرلمانية والرئاسية حتى لو تم تعثر ميلاد الدستور الجديد ، وهو طلب له دلالته ودوافعه التي لا تخفى على أحد .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.