قبل حوالي عشر سنوات كان صحفي أمريكي قد زار القاهرة ومكث فيها قرابة أسبوع ، ثم عاد يكتب انطباعاته عن زيارته ومشاهداته في صحيفته ، وكان مما حكاه أن الأسبوع الذي زار فيه القاهرة صادف أن يكون الأسبوع الذي أسموه "أسبوع المرور" ، حيث أعلنت وزارة الداخلية ومحافظة القاهرة عن تنظيم حملات مكثفة واستنفار كل طاقاتها من أجل تنظيم حركة المرور ووقف العشوائية فيه وإعطاء نموذج للانضباط ، وعندما أراد المراسل الأمريكي أن يقرب المعنى والصورة من ذهن وعقلية المواطن الأمريكي قال أن هيئة الشوارع "المنضبطة" في أسبوع المرور أشبه بأن تقول هنا "كل من يشتهي أن يفعل شيئا في الشارع فليفعله لمدة أسبوع" ، الواقعة ليست نكتة بطبيعة الحال ، وأتصور أن هذا الصحفي لو عاد اليوم إلى القاهرة لعجز عن أن يجد أي تشبيه أو عبارة تفي بالغرض لكي يصف حجم ومستوى الفوضى المرورية في القاهرة ، المدينة مقبلة على كارثة حقيقية إذا لم يتم تدارك الأمر ، وبعد الهوجة التي أثاروها بقوانين جديدة "رادعة" للمرور انتهى الأمر إلى مزيد من الفوضى مع مزيد من تحصيل الأموال ، الأسبوع الماضي شهد استنفارا مختلفا ، حيث عقد الرئيس مبارك اجتماعين وزاريين خلال أسبوع واحد ، كان محضر الاجتماع الوحيد فيهما هو : أزمة المرور في القاهرة الكبرى ، وعندما يفعل رئيس الجمهورية ذلك وسط عواصف سياسية داخلية وإقليمية فهذا يعني أن التقارير المقدمة له تشير إلى اقتراب طرق العاصمة من مستوى الكارثة ، صديق صحفي يعمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة قومية كبرى قال لي أنه يقضي معظم مصالحه واتصالاته أثناء قيادة سيارته من الجريدة إلى التجمع الخامس أو العكس ، قال ذلك ليخفف من دهشتي أنه كلما اتصل بي أو اتصلت به أجده في السيارة ، قال أن نصف عمره تقريبا يقضيه في الشارع ، إذا قدر لك الذهاب في أي مصلحة في مدينة نصر أو مصر الجديدة أو الزمالك أو المهندسين أو الدقي ، وهي المناطق الأكثر رفاهية وتدليلا فإنك ستعود إلى بيتك وأنت "تخانق ذباب وجهك" كما يقولون ، قرفا مما رأيته وعانيته ، أما إذا قدر لك أن تذهب لمشوار في فيصل والهرم وما حولهما فإنك ستقبل يدك ظاهرا وباطنا إذا عدت إلى بيتك سالما أو لم تصب سيارتك بكسور مضاعفة أو سطحية في ألطف الأحوال ، أما إذا ذهبت إلى ما هو أبعد من تلك المناطق فأنت دخلت في ما هو "خارج حدود العقل والقانون" ، حيث لا يوجد نظام ولا مرور ولا قانون ولا دولة من أصله ، غابة تتمدد فيها قوانين البلطجة للراكب والماشي سواء ، الكارثة المرورية ليست قضية طرق ولا لوائح ولا قوانين أبدا ، وإنما هي انعكاس لغياب منظومة متكاملة لأي دولة حديثة ، الفساد الإداري واللامبالاة أحد أسباب صناعة الكارثة بدون شك ، لقد قدمت مشروعات عديدة أجمعت على ضرورة إخراج أكبر عدد من الوزارات ومجمعات المصالح ، وخاصة الوزارات الجماهيرية التي يقصدها أو يعمل فيها عدد كبير ، إلى خارج القاهرة ، وجميع المسؤولين كانوا يسدون آذانهم وكأنهم لا يسمعون شيئا ، دراسات عديدة قدمت عن ضرورة نقل الجامعات الكبرى إلى خارج القاهرة ، وتم تخصيص مساحات ضخمة لجامعات القاهرة وعين شمس والجامعة الأمريكية وغيرها للانتقال إليها خلال عشر سنوات ، وخلال عشر سنوات كانت الجامعة الأمريكية وحدها تنجز مشروعها ، وقد انتقلت بالفعل إلى "مستعمرتها" الجديدة المدهشة في أطراف القاهرةالجديدة ، بنسق معماري ومساحات خضراء ومداخل ومواقف سيارات وملاعب وخلافه وهي مميزة للغاية ، بينما كل ما فعلته جامعة عين شمس مثلا أن وضعت لوحة أرضية "بخط جميل" على رأس مساحة الأرض الضخمة المخصصة لها في مدينة العبور تقول "جامعة عين شمس" وبقية المساحة أمام ناظريك صحراء جرداء كيوم استلمتها ، ولا يوجد أي جهة سألت رؤساء الجامعة الذين تناوبوها طوال هذه المدة عن سبب تجاهل الأمر ، بل يتم مكافأتهم بترقيتهم ، الفساد أحد أركان فوضى المرور في القاهرة ، فهناك المخالفات التي تسد الشوارع الرئيسية عيني عينك من خلال إشغالات تمارسها مؤسسات مالية أو اقتصادية أو مطاعم كبرى أو شركات تأمين أو غير ذلك ، ولا يجرؤ أي رجل مرور على إزالة المخالفات لتسييل المرور ، لأن حقوق الجميع وصلت لأصحابها ، وما زالت المحلات والمطاعم والشركات تحصل على تراخيص النشاط دون وجود أي مساحات للمواقف ، شكرا يا سيادة الرئيس على الاجتماعات وعلى الوصايا وعلى الآمال ، ولكن يبدو أنه حتى مشكلة فوضى المرور أصبحت جزءا من مشروع إصلاح شامل لفوضى وطن بكامله . [email protected]