عندما كانت دول حوض النيل تضع اللمسات الأخيرة على الاتفاقية الإطارية الجديدة لتوزيع مياه النيل في خطوة بالغة الخطورة على أمن مصر القومي ، كان وزير الموارد المائية والري الدكتور محمد نصر الدين علام يسترخي في العاصمة الهولندية ، ربما هربا من حر القاهرة ، بدعوى حضوره التوقيع على اتفافية بين مركز البحوث المائية في القاهرة وجامعة " فاخننجن" الهولندية!! ، منتهى الاستخفاف وسوء التقدير لأولويات المسؤولية ، وغياب البصيرة بمحددات الأمن القومي للبلد ، والحقيقة أن هذا الاستخفاف لا يمكن تحميله إلى وزير الموارد المائية وحده ، وإنما هو سياسة دولة بالكامل وأخطاء مؤسساتها السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية والسيادية ، فترة حكم الرئيس مبارك امتدت الآن إلى ما يقرب ثلاثين عاما ، زار خلالها اثيوبيا على سبيل المثال التي تمثل مصدر 85% من شريان الحياة لمصر مرة واحدة وأخرى لم تكتمل ، في الوقت الذي زار فيه الرئيس مبارك الإمارات العربية أكثر من ثلاثين مرة ، ومن المحال أن يجد عاقل أي تفسير منطقي لهذا الخلل المثير في إدراك أولويات المصلحة الوطنية ، بأي مقياس يمكن أن نتصور أن الإمارات تمثل أولوية قصوى للمصلحة الوطنية والأمن القومي المصري أكثر بثلاثين مرة من اثيوبيا أو كينيا أو أوغندا ، الإمارات دولة شقيقة وللمصريين روابط محبة عديدة معها ومع قيادتها حيث كان الراحل الكبير الشيخ زايد آل نهيان محبا لمصر والمصريين وله مشاريع إنسانية سكانية وزراعية عديدة في مصر ورعاية لأسر الشهداء وأمور أخرى ، هذا كله صحيح ، ولكن المخاطر المصيرية التي تلزم أي قيادة مصرية بمراعاتها كأولوية مطلقة تجعل من علاقاتنا السياسية والثقافية والأمنية وغيرها مع أثيوبيا ودول حوض النيل أولوية مطلقة عند صاحب القرار ، ولكن مع الأسف كان هناك التجاهل الكامل ، وترك العلاقات عند مستوى الموظفين الصغار والمهندسين والإداريين ، لدرجة أن يتحدث وزير الري المصري عن "عمق" العلاقات مع دول حوض النيل والمشروعات "الضخمة" المشتركة فتفاجأ بأنه يتحدث عن إزالة الحشائش من مجرى النهر أو إنشاء بعض الآبار الارتوازية لمياه الشرب ، إنه يتحدث كما لو كان يعني مشكلات بعض قرى الدلتا أو جنوبالوادي أو بعض قبائل الشلاتين ، قبل أن يفيقوا جميعا على الأحداث المثيرة الأخيرة والتي مهما خففنا من مخاطرها إلا أنها تهديد حقيقي للأمن القومي المصري في أخطر جوانبه ، ماء الحياة للشعب والوطن ، وأول أمس يصدر القرار بتسليم الملف إلى مؤسسة الرئاسة ، وأين كانت مؤسسة الرئاسة طوال هذا العمر كله ، وأرجو أن يجري أحد الباحثين دراسة إحصائية عن عدد سفرات الرئيس مبارك خارج مصر ، وهو أكثر حاكم في العالم سافر خارج بلاده طوال فترة حكمه ، لنكتشف أنه سافر مئات المرات إلى عواصم عربية بعضها هامشي جدا على المستوى الدولي ، وعواصم أوربية في رحلات أشبه بالاستجمام لا نسمع من نتائجها إلا العبارات الإنشائية العامة "مناقشة قضايا الشرق الأوسط والعلاقات الثنائية" في الوقت الذي تجاهل فيه الرئيس مبارك تماما دول الحوض ، فلم يذهب إليها إلا مرة أو مرتين على مدار ثلاثين عاما ، وكان من الطبيعي أن يصل هذا الإدراك بهامشية علاقات مصر مع دول الحوض إلى بقية المسؤولين حتى وصلنا إلى حد أن يهتم وزير الموارد المائية المسؤول الأول عن ملف المياه في مصر بحضور احتفال مع جامعة لم يسمع عنها أحد في مصر ، متجاهلا التطورات الخطيرة التي كان العالم يتحدث عنها طوال أسابيع عن تحضير دول حوض النيل لتوقيع اتفافية جديدة لتقاسم المياه في غياب مصر ، لقد كانت مصر تملك القوة بكل أبعادها في أفريقيا على مدار نصف قرن من المرحلة الملكية وحتى مرحلة عبد الناصر والسادات ، القوة الأخلاقية بدعم حركات التحرر والدعم الثقافي والعلمي والتربوي الذي جعل قادة ووزراء أفريقيا يأتون من جامعات مصر ومعاهدها ، والقوة الروحية والدينية من خلال مؤسسة الأزهر وغيرها ، والقوة العسكرية التي حققت هيبة تاريخية ، والقوة الاقتصادية من خلال مشروعات مشتركة ، خسرت مصر كل هذا النفوذ وتراجعت كل هذه القوة في عصر الرئيس مبارك ، الذي انكفأت فيه مصر على هموم صغيرة ومصالح ضيقة ، فتهافت حضورها الإقليمي وتهمش حضورها الدولي وتلاشى حضورها الإفريقي ، مع الأسف . [email protected]