تحتاج مصر وجميع قواها السياسية هذه الأيام إلى قدر كبير من الحكمة والنظر المستقبلى والإحساس العالى بالمسئولية، وذلك من أجل أن تخرج البلاد من حالة الإحباط والتمزق الوطنى إلى مرحلة إعادة بناء الدولة بصورة أكثر هدوءًا وأكثر توازنًا وأكثر شراكة بين الجميع وأكثر أمنًا للجميع أيضًا، وفى هذا السياق نود أن نتوقف عند النقاط التالية: أولًا: أيًا كان الخلاف مع المؤسسة العسكرية، وأيًا كان تخطئة هذا الطرف أو ذاك لقرارها بعزل الدكتور محمد مرسي، الذى أقدمت عليه استجابة لحراك شعبى كبير وقطعًا للطريق على انهيار الدولة، إلا أن ذلك الاحتجاج لا يمكن أن يكون مبررًا لأى حديث أو فعل أو سلوك يهين تلك المؤسسة الوطنية المحورية فى بنية الدولة المصرية الحديثة، ينبغى أن يكون الجيش المصرى وكرامته وهيبته ووحدته خطًا أحمر فى ضمير الجميع، وأن يتوقف مسلسل الأكاذيب والافتراءات التى يروجها البعض تجاه المؤسسة العسكرية وقيادتها، وقيادات التيار الإسلامى بشكل خاص يدركون كم الثناء والتقدير الذى كانوا يحملونها لأشخاص بعينهم فى المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم وبشكل خاص الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وشهاداتهم المتكررة له بالأخلاق العالية والوطنية والإحساس بالمسئولية والتدين أيضًا، فلا ينبغى أن ننسى مثل هذه الشهادات الصريحة فى خضم خصومة سياسية، ولا ينبغى أن يدفعنا فريق من الإسلاميين إلى الفجر فى الخصومة لأسباب تتعلق بالخلاف السياسى أو تباين النظر فى تقدير اجتهاد سياسي، وعلى المعترضين على أى قرار أن يكون نقدهم فى الإطار السياسي، ولا يصح أن ننسى القيم والأخلاق التى تمثل جوهر رسالتنا وروح المشروع الإسلامى من أجل كسب سياسى رخيص، وهذه الافتراءات المتوالية والتحريض على المؤسسة العسكرية يمثل برهانًا جديدًا على أن من قادوا البلاد خلال العام الماضى لم يكونوا أهلًا للمسئولية ولا أمناء على وحدتها ومستقبلها ولا تعنيهم سلامة البلاد وأمنها القومى بقدر ما يعنيهم شهوة الهيمنة والاستيلاء على السلطة. ثانيًا: لقد قدمت القوات المسلحة من جانبها، والرئيس المؤقت من جانبه، ونائبه، الكثير من العهود بأن الدولة سيبنيها كل أبنائها بدون إقصاء، والشراكة الوطنية ستكون شعار المرحلة الجديدة، وخارطة الطريق لن تتجاوز الثمانية أشهر يتم فيها إنجاز تعديلات الدستور وانتخابات البرلمان وانتخابات رئيس الجمهورية، فعلى الجميع، وخاصة الإسلاميين، الالتحام فى تلك الخارطة سريعًا وإعادة ترتيب أوراقهم، لأن الوقت قصير للغاية للاستعداد لتلك الاستحقاقات المتوالية، وإذا كان لدى البعض شكوك أو مخاوف من التراجع أو التلاعب بالخريطة، فإن الحشود المليونية التى يملكونها قادرة على وقف أى تلاعب، وسيجدون وقتها قوى أخرى تتضامن معهم وتحتشد فى الميادين، أما أن يتعمد البعض إهدار هذه الحشود الإسلامية وطاقاتها فى مواجهة عدمية أفقها مسدود، ويعرف محركوها أن أفقها مسدود، ويكون رهانهم الوحيد هو هدم المعبد على من فيه، وعلىّ وعلى أعدائى، أو الوصول إلى تفاهمات ومساومات تخص فصيلهم وتقلل خسائرهم السياسية، فتلك تكون خيانة للأمانة تجاه الوطن، وخيانة لأشواق الإسلاميين أنفسهم، وحرقًا لطاقاتهم فى الهدر، والبعض ممن تورطوا فى إشعال حريق الوطن طوال العام الماضى، بجهلهم وغطرستهم وإقصائيتهم وأخطائهم الكارثية، يحاولون أن يجروا بقية التيار الإسلامى معهم إلى هاوية وإرهاق سياسى حتى يحرموا الجميع من فرصة المشاركة فى بناء مستقبل الوطن. ثالثَا: إذا كان الدكتور مرسى نفسه قد اعترف بأنه أخطأ، وإذا كان الإسلاميون جميعا الآن يسلمون بأن هناك أخطاء حقيقية فادحة، وإذا كان غالبية الإسلاميين يدركون الآن أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق انتخابات، فإن على الجميع أن يكونوا أكثر عقلانية وتفهمًا أمام التطور السياسى الجديد، الذى أعاد المسار "الخاطئ" إلى نقطة الصفر لكى يبدأ البناء من جديد، وعلى الإسلاميين أن يدققوا فى مشهد حشودهم التى يراها العالم كله الآن حشودًا إسلامية فقط، بما يعنى أن المعركة التى يخوضونها هى معركة عقائدية وأيديولوجية فى جوهرها، معركة من أجل الرئيس الذى يصلى والرئيس الذى يحفظ القرآن والرئيس الذى يحمل المشروع الإسلامى، وليست معركة من أجل الديمقراطية، لأنه لا يعقل أن يكون بقية المصريين جميعًا أعداءً للديمقراطية، فالمؤكد أن هذا الاصطفاف الدينى يضر كثيرًا بقضية الإسلاميين وصورتهم أمام العالم، وعليهم أن يتداركوا ذلك مستقبلًا، ويعززوا من الشراكة الوطنية مع بقية أبناء الوطن، وعليهم أن يدركوا أن بناء البلاد وإدارتها فى المراحل الانتقالية وفى أعقاب الثورات لا يمكن أن يكون حكرًا على فصيل أو تيار بعينه، مهما كانت قوته، وأن الصندوق الانتخابى فى مصر بعد الثورة ليس هو بذات المكانة والهيبة والرسوخ التى يمثلها الصندوق الانتخابى فى ديمقراطية عريقة ومستقرة مثل الانتخابات البريطانية أو الفرنسية. رابعًا: من الواضح أن هناك أطرافًا تستغل ذلك الصدع السياسى الحالى لكى تفجر المشهد بخطاب إقصائى وتحريضى ضد التيار الإسلامي، لحسابات لا صلة لها بالثورة ولا بالديمقراطية، وعلى القوى المدنية الرشيدة والإدارة السياسية الجديدة للبلاد أن يكون لها صوتها وربما إجراءاتها ضد هذه الأصوات، بوصفها تهديدًا للأمن القومى بالفعل، وتمثل عملية تفخيخ وتخويف للإسلاميين تجاه المرحلة الجديدة، وتنشر الشك وسوء الظن بما هو آت، والحقيقة أن غضب الإسلاميين ومخاوفهم من صورة المستقبل وعودة الممارسات الباطشة القديمة هو أكثر كثيرًا من غضبهم لعزل الدكتور مرسى من رئاسة الجمهورية، ولو وصلتهم رسائل طمأنة عملية فإن ذلك سيسهل إدماجهم سريعًا فى المرحلة الانتقالية وتفكيك الاحتقان والحشد.