تختلط الأوراق عند الكثير من المسلمين حين يدور الحديث عن قضية الحكم بالشريعة، وكونها ركن من أركان التوحيد وحمى من حماه. وسبب هذا الخلط هو إما التفزيع المغرض في هذه القضية ممن له مصلحة تنحية الشريعة عن الحياة، وإما الجهل بحقائق هذا الدين وأوّلوياته. والمفزّعون يستخدمون ورقة الفكر الخارجيّ ليُعمّوا على الناس دينهم ويهمّشوه، بل ويجرّمون من يتحدث عن هذه القضية من زاوية عقدية، لا من زاوية فقهية، ويرمونهم بأنهم من "الخوارج" أو "التكفيريون" الذين يجب أن تحذر منهم الأمة لبدعهم وضلالاتهم! يساعدهم في هذا من باع دينه بثمن بخس من فقهاء السلطان، أومن إنحرف فكره من أتباع حركات إسلامية وقعت في فخّ الإرجاء العقديّ. لا مجال للشك في أن الفكر الخارجيّ فكرُ مرفوض ممقوت، فيه كثير من الضلال والخروج عن نهج الصحابة والتابعين من أهل السنة والجماعة. ونحن هنا لسنا في صدد الحديث تفصيلاً عن هذا الموضوع، وقد تناولناه بالتفصيل في الباب الرابع من كتابنا "حقيقة الإيمان" الذي صدر في نهاية السبعينيات، ولكن نود أن نشير إلى أمرين رئيسين من الأمور التي ضلّ فيهما الخوارج من ناحية، وتشابه هذا الضلال على المسلمين في عصرنا هذا فخلطوه بما صحّ من مذهب أهل السنة والجماعة نتيجة هذا التفزيع المغرض الذي أشرنا اليه، فردّوا صحيحاً من الدين، وهم يحسبون أنه ليس من الحقّ. هذان الأمران هما قضية الحكم بما أنزل الله، ثم قضية السمع والطاعة لولاة الأمر. فالخوارج يمدّون حمى التوحيد ليشمل كلّ قول أو عمل في دائرة الإسلام، فمن قال أو فعل أمراً مخالفاً للشرع كفر بالله العظيم كفراً أكبر، سواء كان فرداً أو حكومة أو مجتمعاً. فمن تملى في وجه أجنبية كفر، ومن تعامل بالربا كفر، ومن عقّ والديه كفر، ومثل ذلك سائر الأفعال على خلاف بين فرقهم في رتبة الإصرار وأثرها. أما أهل السنة والجماعة فيفرقون بين أعمال الكفر وأعمال المعصية. فالتوحيد هو إفراد الله سبحانه بالربوبية أي الخلق والرزق ونفي الشريك والنظير والوالد والولد ونسب الجنّ والملائكة، وسائر ما يلزم من أسمائه الحسنى، سبحانه، وإفراده سبحانه بالعبادة والطاعة بإلتزام إتباعها أمراّ ونهياً، غير مشرّعين لغيرها ولا رادّين لها، وإعلانها مصدراً أوحد في حياة المجتمع وفي الخلية الأسرية. فإن نُحّيت الشريعة عن هذا المقام، بفعل حاكم في مجتمعه، يضع شريعة موازية تبيح وتحظر غير أمر الله ونهيه، كان ذلك خدشاً للتوحيد واستحلالاً وخروجا عن الربقة. لكن إن خالف الفرد المسلم في التطبيق، بعد قبول الأمر ونية الإلتزام، فهو عاصِ فاسق، لا يُكفّره أهل السنّة حتى لو سرق أو قتل أو زنا، أو فعل ما فعل، وإن اصرّ عليها، حتى يسقط عقد قلبه، ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بإقراره صراحة، فلسنا ممن يطّلع على خفيّات الأنفس وخبايا القلوب، ثم باب التوبة مفتوح لمن أراد توبة ورجوعاً إلى الله سبحانه. الفارق إذن هو في أنّ الفكر الخارجيّ لا يدع مجالا للخطأ أو الضعف في حياة المسلم، وهو أمر معارض للفطرة، إذ إن الإنسان قد خُلق ضعيفاً، والأمر أمر خضوع وقبول وإلتزام عقديّ بقبول الأمر، ثم يبقى المرء محاولا للسير على المحجّة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. أمّا أن يَكْفُرَ كلّ من خالف أمراً وإن ندم عليه وظلّ التسليم به معقوداً في قلبه، فلا محلّ له في نهج الإسلام السويّ. لكن التشريع الموازى لشرع الله تعالى الذي يرخّص للحرام ويقنّنه، ويمنع الواجب والحلال ويجرّمه، ويُجْرى ذلك في حياة الناس عامة، هو أمر آخر ليس من جبلة المعاصى ونوعها، بل هو منازعة الله أخصّ صفات ألوهيته، ومشاركته في أمره، لا يخالف في ذلك إلا جاهل عنيد أو مُرجئ عتيد، ولا عليك ممن تلاعب بأدلة الشرع التي لا تُحصى على صدق هذا الأمر تحت دعوى الوسطية المزعومة. هذا هو الفارق الرئيس بين فكر أهل السنة والجماعة الذي يستقونه من كتاب الله وسنة رسول الله وعمل صحابته وعلماء أمته صلى الله عليه وسلم على مدار التاريخ، الذي يفزّع المفزّعون من اتخذه منهجاً، وبين فكر التكفير الخارجيّ الذي قال صلى الله عليه وسلم عن حَمَلته أنهم "يقرؤون القرآن لا يبلغ تراقيهم، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود". وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.