تحت وهم وزعم الضبط والربط تنتشر مقولات وتصرفات يعلو فيها الباطل على الحق، ويقف فيها الصواب أسيفا مكسور الجناح والخاطر، ويمرح الخطأ ويتبجح حتى يجعل من مسلكه نظاما وقانونا، فتنتشر المقولات التي تقول: "أطع الأوامر ولو كانت خطأ، ثم تظلم بعد ذلك"، وفي ظل الظروف الاستثنائية كزمن الحرب تزداد سيطرة القوة والبطش ويُوارى الحق والشرع، فينبري مروجو الظلم والطغيان برفع اللافتة العريضة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وما دروا أن صوت الحق يعلو فوق كل صوت، حتى وإن كان صوت ألف معركة، وكم ضاعت حقوق بمثل هذه الشعارات الجوفاء وانتهكت أعراض واستبيحت محارم. لا أحسب عاقلا يدعو إلى الفوضى أو التسيب وعدم الانضباط، لكن الحفاظ على الانضباط لا يكون بتضييع الحقوق وإهدار الكرامة واستباحة الأعراض، ولدينا العديد من النماذج المتميزة في الفترة المبكرة من تاريخ أمة الإسلام، ما يبين أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، سواء في أوضاع السلم والاستقرار أو في أوضاع الحروب والاضطراب، حيث الشرع (القانون) ثابت في جميع الأحوال لا يملك أحد أن يغيره أو يبدله أو يعطله، سواء كان حاكما أو محكوما فردا كان أو هيئة أو مؤسسة، فليس هناك ما يسمى بقانون الطوارئ الذي يتعطل في ظله القانون الطبيعي والذي يتحول الرعية في ظله إلى مجرد قطيع، لا يسمح له بالبحث إلا في حدود المطعم والمشرب والملبس والمسكن، حيث لا تعامل الرعية بوصفهم من بني آدم الذين كرمهم ربهم خالقهم وفضلهم على كثير من خلقه. عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، وانتفضت كثير من القبائل عائدين إلى ما كانوا عليه من الشرك والكفر- وهذا لا شك وقت عصيب اضطربت فيه أطراف الدولة ومادت أركانها- أراد أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخليفة الراشد أن يقاتلهم، حتى يدخلوا فيما خرجوا منه، لكن الصحابة الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن الأمور كلها ينبغي أن تدار بمقتضى الحق وليس بمقتضى العصيبة، ولم تكن عندهم تلك النعرات والشعارات الجوفاء الفاسدة من مثل "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، لذالم يكونوا ليقْدُموا على ذلك ويتابعوا أميرهم بغير برهان، من أجل ذلك قام عمر يقول لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله، فمن فعل ذلك فقد عصم مني ماله ودمه وحسابه على الله" سمع أبو بكر رضي الله تعالى عنه من عمر رضي الله تعالى عنه مقالته واعتراضه ووعاها، فلم يعنفه ولم يقل له: نحن في ظرف استثنائي أو زمن حرب ولا بد من فرض الطوارئ، لكنه ناقشه بالحجة والدليل والبرهان، وقال له: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، أما عمر فلم يقبل منه ما قال لمجرد كونه الرئيس الأعلى، بل لما تبين له صواب رأي أبي بكر وافقه عليه وتابعه قائلا: والله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق. ذات مرة خرج عبد الله بن عمر في سرية تحت قيادة خالد بن الوليد، وبعد انتهاء القتال أمر خالد جنده بقتل أسراهم، لكن عبد الله بن عمر لما تبين له خطأ رأي خالد أبى أن يقتل هو أو أحد من أتباعه أسراهم-كان هذا وقت حرب-وعندما بلغ الأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف عبد الله أو يعتب عليه، ولم يقل له: أطع الأمير ثم تظلم منه، أو أن الوقت وقت حرب وهو لا يتسع للاختلاف، بل قال عندما بلغه الأمر: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد فهذه بعض المواقف من مواقف لا تعد ولا تحصى يتبين فيها أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأنه لا صوت يعلو صوت الحق، وعندما كان ذلك ديدن القوم نصرهم الله وسادوا الدنيا جميعها اللهم اجعلنا ممن يقتفي أثرهم. [email protected]