لم يفاجئنى ، بأى حال من الأحوال ، أن أرى ، فى الصف الأول من المصلين ، بجامع عمر مكرم ، خلف جثمان الراحل الكبير المحامى والمناضل الشيوعى الأستاذ أحمد نبيل الهلالى ، كلا ً من الأستاذ محمد مهدى عاكف ، المرشد العام لجماعة الأخوان ، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ، والأستاذ جمال تاج الدين ، القياديان البارزان فى الجماعة ! . وكذلك لم يدهشنى وجود قيادات جهادية أو من الجماعة الإسلامية فى صفوف الذين جمعهم الحزن على رحيل الفارس النبيل ، أحمد نبيل الهلالى ، وبالطبع ، لم يكن غريبا ً أن يجتمع فى وداعه هذا الحشد الكبير من رفاقه وأصدقائه ومحبيه ، من كافة الاتجاهات السياسية والفكرية ، مسلمين ومسيحيين : شيوعيين وقوميين ، إسلاميين وليبراليين ، اجتمعوا جميعا ً على محبة هذا الذى كان يسعى فى الأرض هونا ً ، يحمل هموم البشر ، بصرف النظر عن دينهم وانتمائهم الأيديولوجي أو العقائدى ، ويدافع عن الفقراء والمظلومين بلا مقابل أو حتى انتظار لكلمة شكر ، فى دفق من المحبة الغامرة لمصر ، الوطن والإنسان ، فاضت به نفسه النبيلة حتى عمت على الجميع ، يلمسها من كل اقترب منه ، أو أسعده الحظ بالتماس مع مساره البطولى الطويل ، الممتد عبر عشرات السنين ، تجرد فيها هذا الفتى المميز من كل الصغائر ، وارتفع عن الرغبات والدنايا ، وتنازل بملء إرادته عن كل أملاكه الضخمة التى ورثها عن عائلته ، سليلة " المجد والثروة ! " وعما تركه له والده ، رئيس وزارء مصر فى عهود ما قبل 1952 ، من أطيان وقصور ، فى رحلة نادرة من رحلات البطولة الإنسانية الصرف ، التى يتسع فيها قلب الإنسان النبيل لكى يحتوى العالم أجمع ، فيشعر بمسئوليته تجاه الناس والكون والحياة ، وتتطابق فيها الأفكار مع السلوك ، والرؤية مع الممارسة ، بصورة عز نظيرها ، وقد يصعب – فى الواقع – تكرارها ! . وهكذا ، فمن قمة الرفاة حيث الطبقة الحاكمة اللاهية الباذخة ، إلى حياة التقشف والمكابدة فى التنظيمات الشيوعية السرية ، حيث المطاردة والاعتقال والمعاناة والسجون ، ذروة التناقض والتضاد ، عاشها المناضل والإنسان الكبير ، أحمد نبيل الهلالى ، دون شكوى أو تذمر ، بل بابتسامة آسرة متواضعة حنون ، كانت تجبر كل من التقاه على الإنجذاب إليه ، والثقة فى صاحبها ! . ومضى أحمد نبيل الهلالى ، خلال عمره المديد ، فى الدفاع بقوة عن شعب مصر ، ومصالح شعب مصر ، وعن حريتهما واستقلالهما ، كان يعتبر أن كل المخلصين من أبناء هذا الوطن أصحاب حق فى ترابه وثروته ومصيره ، بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو ثروتهم أو موقفهم السياسى ، ولذلك كان طبيعيا ً أن تراه فى مقدمة المدافعين عن المعتقلين السياسيين من مختلف التيارات السياسية ، دون تفرقة بين الشيوعيين الذين ينتمى إليهم فكريا ً ونضاليا ً ، أو الإسلاميين الذين يختلف مع العديد من أفكارهم وممارساتهم ، أو القوميين الذين قد يتفق مع الكثير من آرائهم ومواقفهم ويختلف مع آراء ومواقف أخرى ! . . فالجميع عنده أبناء الوطن الواحد ، من حقهم أن نسمع إليهم وأن نحاورهم بالحسنى ، وأن نمد إليهم اليد ، عبر الأشواك والأسوار ، لكى نبحث معا ً ، عن القواسم المشتركة التى ينبنى عليها الإجماع الوطنى ، الضرورى لخير هذا الوطن وحريته ومستقبله . كما رأى الهلالى فى النضال من أجل فقراء مصر وكادحيها ، ملح أرضها وأصحاب الحق فيها ، شرفا ً وأى شرف ، وآثر أن يهب لهم ذوب عقله ووجدانه دون تردد أو تقاعس ، وهو ما رده إليه المصريون الحساسون الطيبون ، فى هذا الاحتضان الكبير له فترة مرضه ، ثم فى اجتماعهم من حول جثمانه الطاهر وهو يرحل – مجللا ً بعالم الوطن الغالى – إلى بارئه ! . رحم الله الفقيد الغالى رحمة واسعة ، وعوض مصر المكلومة برحيله ورحيل أمثاله من المحبين المخلصين ، ومنحنا القدرة على التعلم من مسيرة هذا الفارس النبيل ، الذى غادرنا ونحن أحوج ما نكون إليه ! .