" السلطة مرض " عبارة سمعتها أمس خلال حوار متلفز فى برنامج " 48ساعة " على قناة المحور ، أطلقها عالم شهيرفى الطب النفسي وأحد أبرز خبراء العلاج النفسي فى العالم العربيّ .. امتدت خبرته فى هذا المجال لعدة عقود ، إنه الدكتور أحمد عكاشة . أطلق الرجل هذه العبارة لا على سبيل المجاز أوالمبالغة ، وإنما لتقرير حقيقة لمسها بنفسه من خلال تحليله للسّمات النفسية لشخصيات تشغل مناصب فى قمة السلطة منهم الوزراء ، كأن الرجل كان يعبّر عما يجول فى خواطرى وأنا أستمع إليه ، ومن ثمّ عنّ لى أن أعرض النقط الأساسية فى حديثه ، وسنرى أنها تتصل بموضوع هذه المقالة .. أعرض الحديث كما فهمته من كلام صاحبه وحتى من إشاراته وإلْماحاته التى لم يصرّح بها ، بل آثر أن يتركها لذكاء المشاهدين ، وأعتقد أن الدكتور أحمد عكاشة لا تنقصه الجرأة لتصحيح ما سأذكره عنه أو ما أشاركه فيه من تحليلات ونتائج ... يُرجع الدكتور عكاشة أسباب هذا المرض السلطويّ إلى أن هؤلاء الناس لا يستندون فى اختيارهم لمراكز فى السلطة إلى إرادة الشعب ورغبته .. بمعنى أنهم لم يجيئوا عن طريق صناديق الاقتراع العام ، كشأن الوزراء والحكومات فى النظم الديمقراطية الحقيقية فى العالم ، وإنما تمّ اختيارهم من قبل شخص واحد يجلس فى قمة السلطة ، فهو وليّهم ، وصاحب الفضل عليهم . ولذلك فإنهم لا يشعرون بأي التزام تجاه الشعب وإنما التزامهم الأوحد لوليّ نعمتهم . إنهم ( بحسب تعبير الدكتور عكاشة) يعانون من أزمة هويّة .. أو أزمة انتماء ، فهم لا يشعرون بانتماء للشعب الذى يُفترض أنهم جاءوا لخدمته .. وقد ترتّب على هذا الوضع أنهم لا يهتمون بمصالح النا س ولا برضاهم ، ولا يعيرون سخطهم أىّ اهتمام ، وإنما تتركز أعينهم و كل اهتماماتهم على إرضاء صاحب السلطة العليا ، ولذلك تراهم مصابين بالقلق الدائم خشية أن يتغيّر مزاج وليّ النعمة فجأة فيسقطهم من مراكزهم دون سابق إنذار.. القلق إذن هو الذى يكمن وراء حالتهم المرضية .. فهم لا يدركون على وجه اليقين لماذا تم اختيارهم ..؟ ، هم بالذات دون غيرهم ..؟ ، ولا يدركون على وجه اليقين لماذا استُغنى عنهم عندما يتمّ إخراجهم من السلطة ..؟ ، وتتعقّد الحالة المَرَضيّة عند بعضهم أكثر عندما يضطرون لقبول مركز فى السلطة دون رغبة منهم فيه . وفى غياب هدف وطنيّ عام أو مشروع تنمويّ واضح ، وفى غياب معايير جودة فى الأداء، ولا معايير عامة للحساب والمساءلة ، وفى غياب رقابة شعبية حقيقية من المجلس النيابيّ ، وضعف القوانين ، بسبب هذا كله تتشوّش رؤِية المسئولين الكبار وتضطرب أعمالهم وتكثر أخطاؤهم ويتعاظم تاثير الأهواء و الوساطة والنفاق ، ويشيع فى المنظومة السياسية والإدارية كلّها أجواء الفساد والاستبداد . وهذه هى النقطة الجوهرية التى أردت الوصول إليها من خلال تتبّعى لحديث الدكتور أحمد عكاشة .. الفساد والاستبداد إذن هو النقطة الجوهرية التى تتصل اتصالا وثيقا بموضوع هذه المقالة.. الترف هو الأصل .. واستئثار المترفين بالسلطة والمال معا هو مصدر كل بلاء وكل مصيبة تصيب الأمم والمجتمعات البشرية .. فلا عجب أن يصوّر القرآن العظيم المترفين فى صور تثير الكراهية لهم والاشمئزاز من سلوكهم .. فهو يقرنهم بالظلم ويصف سلوكهم بالإجرام : { واتّبع الذين ظلموا ماأترفوا فيه وكانوا مجرمين} (سورة هود 116) . وفى كل آيات القرآن التى جاءت على ذكر الترف و المترفين بعد سورة "هود" نرى تأكيدا على هذه الحقيقة التاريخية: أن الترف دائما متلازم مع الكفر وإنكار البعث واليوم الآخر ، و كان المترفون دائما هم الذين يتصدّون للأنبياء والرسل .. يشككون فيهم وفى صدق رسالتهم .. ويسخرون منهم ومن أتباعهم المؤمنين .. يضيّقون عليهم سبل الحياة .. ويخضعونهم للإرهاب والتعذيب : [ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأتْرفْناهم فى الحياة الدنيا ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون . ولئن أطعْتُم بشرًا مثلكم إنكم إذن لخاسرون ] (المؤمنون:( آية 33- 34) . أذكر أننى كنت كلّما جئت فى قراءتى للقرآن إلى آية من هذه الآيات أتوقف عندها لأسأل نفسى هذا السؤال : تُرى ما هى الحكمة لهذه الصورة التى يرسمها القرآن منفّرة كريهة سوداء للترف والمترفين ..؟ ألأنّ المترفين هم سبب كل بلاء ومصيبة تصاب بها المجتمعات الإنسانية والأمم ..؟ أم لأن الترف يفسد فى الإنسان الفطرة السّوية التى خلق الله الإنسان عليها ..؟ أم لأنه يفسد المشاعر الإنسانية .. ويجفف فى القلوب ينابيع الأحاسيس المرهفة التى تستقبل وتتأثّر وتستجيب ..؟ أم لكل هذا وأكثر منه ..؟؟ لقد كتبت فى إحدى مقالاتى أن هناك حكومات لا تأبه بما يحل بشعوبهم من كوارث .. بل ذكرت أكثر من مرة مؤكّدا أن هذه الحكومات تعمد إلى إفقار الناس وإذلالهم وانتهاك كرامتهم ، بل تعمل على إمراضهم ، ولا تتورع من إشاعة الخوف والهلع بينهم، وقلت فى مقالة أخرى إن التخويف قد أصبح سياسة معتمدة عند بعض الحكومات إذ وجدتها سياسة مضمونة النجاح لإخضاع الشعوب وتذليلها لتفيذ قرارات منكرة لم يكن فى الإمكان تنفيذها فى الظروف المعتادة ، والأمثلة على ذلك كثيرة هنا وهناك وفى كل مكان بالعالم .... وما كان كل ذلك ممكنا إلا لأن المترفين هم الذين يتحكمون فى ثروات الشعوب ويستأثرون بالسلطة .. من الأمثلة التى ترد على الذهن مباشرة أذكر الآتى: 1- إنفلوانز الخنازير موجودة فى كل بلاد الدنيا ، ونسبة انتشار الإصابات في بعضها أكثر من نسبتها عندنا ، ولكن الناس فى هذه البلاد يحيون حياة طبيعية ولا يشعرون بالخوف والهلع كما يحدث عندنا .. ذلك لأن التركيز الإعلامي هنا يأخذ أبعادا لا مثيل لها فى أي مكان آخر .. وهذا التركيز له وظيفة لا تخفى على المراقب االيقظ ، فليس من قبيل الصدفة أنه فى نفس الوقت الذى تشتعل فيه معارك الإعلام الكروية ثم الخنزيرية ، وأكثرها معارك حول مخاطر مختلقة أو وهمية .. ليس من قبيل الصدفة أن تشتعل هذه المعارك بينما يتأهّّب النظام الساسيّ من وراء ستار لتفيذ مشروع الجدار الفولاذيّ لإحكام الحصار على غزة ، وهو تكتيك مسرحيّ ، المقصود به أن يحرف نظر المشاهدين عن ركن آخر من المسرح تم تعتيمه ، حيث تجرى عمليات أخرى ستفاجئ المشاهدين بالظهور فى الوقت المناسب .. حاولت السلطات فى أول الأمر أن تنكر حقيقة الجدار الفولاذيّ .. فلما انكشف أمره ، وعُرفت تفاصيله تحوّلت إلى الدفاع عنه بحجة أنه ضروريّ للحفاظ على الأمن الوطنيّ .. وجرت فى هذا أكاذيب ومزاعم لا أساس لها من الصحة .. وتلك سمة ثابتة فى النظام عندما يضطر للدفاع عن نفسه فيما تورّط فيه من آثام وفضائح .. ثم تبلغ ذروة المسخرة الدرامية فى المشهد التالى: 2- يدخل الشيخ الكبير بصحبة جنرال الأوقاف (المندوب الأكبر للسلطة) المجمع اللاهوتي للمؤسسة الدينية .. يدخلان بخطوات متسارعة ووجوه ممسوحة من أي أثر لانفعال إنساني .. يتبعهما فى الظهور على المسرح جوقة من المصورين الذين تم إعلامهم وتوجيههم مسبّقا لمهمة رسمية .. أعضاء المجمع وحدهم هم الذين لم يتم إخطارهم من قبل عن سبب استدعائهم للحضور إلى المجمع ، لذلك تراهم ينظرون فى بلاهة إلى مايدور حولهم من مناظر لم يألفوها من قبل فى اجتماعاتهم العادية .. لم يكن هناك جدول أعمال ولا مناقشات .. ولا أخذ أصوات .. يتنحنح الشيخ الأكبر ويطرح عمامته إلى الخلف قليلا لتهوية رأسه الذى ألهبته الكامرات بأضوائها الساخنة .. ثم يخرج من جيبه ورقة مجهّزة سابقا من جهة غير مُعلن عنها .. ثم يشرع فى قراءتها ربما لأول مرة .. فإذا بها بيان باسم المجمع يعلن للعالم أن الجدار الفولاذي شرعي ، وأن انتقاد إقامته غير شرعي بالمرّة..! أظن أن الشيخ الذى لا يقرأ شيئا عن السياسة ولا يعبأ بهذا الجانب المعقد من الحياة لم يصل إليه الخبر بأن هذا الجدار الذى يتحدّث عنه قد صممته أمريكا وأنفقت عليه ، لهدف أصبح واضحا لكل الناس فى مصر وخارج مصر وهو: إحكام الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة ،حتى لا يبقى لسكانه من الخيارات إلا الخضوع أوالإبادة .. والمهم هنا هو أن عملية إفساد المجتمع لم تستثن المؤسسة الدينية .. !! .. ثم اقرأ معى الفقرة الثالثة كنموذج آخر ... 3- فى مقال بعنوان: "كلمتان فى الضحك على العقول" المنشور بحريدة الشروق يوم السبت الثانى من يناير الجارى يقول الكاتب الصحفي فهمى هويدى معلّقًا على كلام الأمين العام للحزب الوطني فى ادعائه بأن الحزب الوطنى لا يسعى للانفراد بالسلطة أو احتكارها فى حين أن كل تصرفات هذا الحزب على مدى ثلاثة عقود تقريبا لم يفعل اى شيء سوى الانفراد بالسلطة واحتكارها .. يقول فهمى هويدى: " إن المشلكة التى نواجهها فى مصر الآن لم تعد تتمثل فى احتكار الحزب الوطنى للسلطة ، الذى أصبح حقيقة واقعة يلمسها كل ذى عينين ، وإنما هى فى الإصرار على تأبيد ذلك الاحتكار، من خلال وسيلتين: الأولى هى الإصرار على تدمير عناصر العافية فى المجتمع وإخصائه حتى لا يلوح فى الأفق أى بارقة أمل فى إمكانية وجود بديل يمكن أن ينافس الحزب الوطني يوما ما ... الوسيلة الثانية لضمان الاحتكار تمثّلت فى اللعب بالقوانين والعبث فى الدستور لإضفاء شرعية ما على ممارسات السلطة، بحيث أصبح الاحتكار محميّا بتشريعات مجرّحة ومغشوشة ومن ثَمّ فاقدًا للشرعية". واضح من هذا الكلام أن السلطة التى لا تستطيع اكتساب شرعيتها عبر انتخابات حرة نزيهة تلجأ إلى إفساد الحياة السياسية وحياة المجتمع بأسره مما يؤكد ما ذهبنا إليه فيما يتعلق بفساد المترفين وإفسادهم لحياة المجتمعات والأمم .. وهو ما أبرزه فهمى هويدى من تفاصيل فى موقع آخر من مقالته حيث يقول : "إن أى مواطن عادى يعرف جيدا أن المعركة الوحيدة التى يخوضها الحزب الوطنى بمنتهى القسوة والشراسة هى معركة تكريس الاحتكارمن خلال الفوز بالأغلبية الساحقة فى أى انتخابات تجرى فى البلد، وأساليبه فى ذلك معروفة، وهي تتراوح بين قمع المستقلين بكل وسائل الترهيب وبين التزوير والتلاعب فى النتائج . وفى هذا وذاك فالشرطة جاهزة للقيام بالواجب فى خدمة الحزب. وميليشيات الأمن التى تضم جيشا من العاطلين وأصحاب السوابق تنتظر فقط الإشارة لتأديب المستقلين والمعارضين وأنصارهم " . ربما الذى أريد لفت النظر إليه هو وجود جيش العاطلين وأصحاب السوابق .. كيف وُجدوا ..؟ ومن أوجدهم فى الأصل..؟ ولأى غرض وُجدوا.. ؟ لقد أجاب الدكتور أحمد عكاشة على السؤالين الأول والثانى جزئيا فى حواره المتلفز حيث يرى أن انهيار التعليم وغياب مشروعات تنموية جادة وناجحة ، وسوء إدارة الخدمات الأخرى أدى إلى انتشار البطالة والأزمات المعيشية واليأس من المستقبل .. والبطالة واليأس بدورهما قادا إلى انتشار المخدّرات وارتفاع معدلات الجريمة فى المجتمع .. أما أنا فقد أجبت على السؤال الثالث حيث ذكرت فى مقالات سابقة لى أن الأمر ليس فيه صدفة أو عجز عن إصلاح الحال ، إلا أن يكون عجزا مصطنعا لتبرير نكوص الحكومات عن أداء واجباتها الأساسية تجاه شعوبها .. وأن وجود المتعطلين عن العمل والبلطجية وأصحاب السوابق له وظيفة حيوية فى تهديد المجتمعات ووضع الناس والراغبين فى الإصلاح والتغيير منهم على وجه التحديد تحت سطوة السلطة المستبدة .. إن وجود هؤلاء (كعمالة رخيصة بلا عقل) فى حوزة السلطة المستبدة يعتبر أداة من أدوات إرهاب المجتمع وتخويفه حتى يظل على الدوام خاضعا لسيطرة النخبة المترفة ، عبدا فى خدمة أهوائها وانحرافاتها ... وإلى لقاء آخر إن شاء الله .. ما دام فى العمر بقية ... [email protected]