تمثل إيران حالة دراسة جيدة – رغم اختلاف المذهب – لقدرة الإسلاميين على إدارة الدول وبناء علاقات دولية وإدارة الاختلاف في المجتمع المتنوع والانتقال من التنظير والتدريس والمثالية إلى التأسيس والممارسة والواقعية. لذلك كان من الواجب أن يتابع المهمومون بالشأن العام من كافة الأطياف، خاصة الإسلاميين ما يجرى في إيران وتحليله والاستفادة بدروسه رغم الاختلاف الواضح بين المذهب السني وذلك الشيعي خاصة في مجال الإمامة والحكم. لم يكن لدى الإمام الخومينى في بداية نشاطه الثوري وعند وصوله إلى طهران منتصرا سوى أطروحة "ولاية الفقيه" أو "الحكومة الإسلامية" التي انتقلت بالمذهب الشيعي نقلة هائلة من انتظار الإمام المهدي المنتظر الغائب إلى تولية فقيه يقوم على إدارة دولة مؤقتة حتى يظهر الإمام ويعود. وكان لجرأة الإمام الخومينى وشجاعته وزهده وصبره الطويل ما أهله رغم النفي والإبعاد أن يلتف حوله وحول فكرته جمهور ثائر كبير ونخب من مختلف الأطياف السياسية التي عارضت نظام الشاه الفاسد المستبد من أقصى اليمين وتجار البازار إلى أقصى اليسار من شيوعيي حزب "تودة" وفى الوسط نخب علمانية ليبرالية مثل "بازركان" و "الحسن بنى صدر" و "قطب زادة" و "إبراهيم يزدى" وانتصرت الثورة الإسلامية انتصارا تاريخيا سيسجله التاريخ من أبرز أحداث القرن الماضي مثل الثورات الكبرى في التاريخ. سرعان ما دب الخلاف بين الفرقاء المنتصرين وكان دمويا مع الشيوعيين وإقصائيا مع العلمانيين الليبراليين وسالت دماء كثيرة وانتهى دور الرموز التي ولاها الخومينى في بداية الحكم الجمهوري واستقر الأمر داخليا للخومينى والملالى الفقهاء. وكان للحرب العراقية الإيرانية دور كبير في منع تفاقم أي خلاف داخل الحوزة العلمية في قم وغيرها أو بين أركان الحكم أنفسهم. وعندما وضعت الحرب أوزارها وتجرع الخومينى وقف القتال كما وصفه هو كتجرع السم دون انتصار حاسم لاى من الطرفين وكان الدمار شديدا والدولة في حاجة إلى إعادة بناء، بدأ خلاف جديد مع نائب الخومينى نفسه "آية الله حسين منتظري" الذي تجرأ وانتقد نظرية الخومينى الأساسية "ولاية الفقيه" وبدأ في تأليف أطروحة ضخمة للأسف لم أطلع عليها، ولكن قرأت وسمعت للدكتور "العوا" حديثا عنها يصل في خلاصتها إلى اقتراب شديد من مذهب أهل السنة بتحجيم دور الفقيه وإعطاء الدور الأكبر للشعب والجماهير. عزل الخومينى نائبه ووضعه في الإقامة الجبرية ومنع الاتصال به واستمرت مسيرة الدولة لإعادة بناء ما دمرته الحرب الطويلة وكان هنا رجال جدد من تلاميذ الإمام الذي انتقل إلى رحاب الله وتساوت الرؤوس، فليس هنا كاريزما قيادية، ولا ملكة فقهية اجتهادية ولا قدرة تنظيمية قيادية عظيمة للولي الفقيه الجديد الذي انتقل من موقع رئاسة الجمهورية إلى موقع المرشد الأعلى وتناوب على رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء تلاميذ مدرسة الخومينى الثورية الذين تعايشوا معا طوال عشرين عاما حتى دب الخلاف بينهم واليوم وتصاعد وأصبحت إيران على فوهة انفجار أو بركان ويتساءل الجميع: إيران إلى أين ؟ هذه هي جذور الاختلاف الحالي، أو قل بدقة هي مقدمات المشهد الذي نراه الآن ويتصدر المشهد أسماء تتردد في وسائل الإعلام بكثرة : "أحمد نجاد" الرئيس و "على لاريجانى" رئيس البرلمان في جانب، ومن وراءهم، المرشد الأعلى "خامنئى" ورئيس الحرس الثوري، وعلى الجانب الآخر : "مير حسين موسوى" رئيس الوزراء الأسبق، و "مهدى كروبى" رئيس البرلمان السابق ومن وراءهم "رفسنجانى" و "خاتمى" رؤساء جمهورية سابقين، بناة الدولة وعمدها الرئيسية طوال عقدين من الزمان بعد وفاة الخومينى . لماذا أهمل هؤلاء الأخوة الذين تصاعد بينهم الخلاف إلى حد الاتهامات الخطيرة عن التفكير الجدي في تنظيم إدارة الاختلاف فيما بينهم داخل البيت الواحد ورسم ذلك في دستور البلاد وإرساء تقاليد إسلامية تمنع الوصول إلى حافة الهاوية ؟ هل شغلتهم الصراعات مع أعداء الخارج وخصوم الداخل عن سنة الله في الخلق وهى أن عقولهم متفاوتة وتقديرهم للمصالح مختلفة، وآراءهم متباينة وأن المصالح تتزايد مع الوقت وتتعارض حتى تصل إلى حد الصراع الذي تغلقه شعارات ومبادئ، بينما قد يخفى خلفه مصالح متضاربة وصراع قوى، وأجنحة تتشكل مع مرور الوقت خاصة إذا أصبحت هناك سلطة ودولة ومراكز ونفوذ وأموال. أبرز نقاط الاختلاف الفكرية الآن تتركز حول "ولاية الفقيه" وتطوير النظرية وليس إلغائها بحيث تكون هناك محاسبه للولي الفقيه ودور أكبر للشعب، وتقليص صلاحيات المرشد الأعلى، ويدلل على ذلك التفاف رموز وجمهور الإصلاحيين حول آية الله منتظري في حياته ثم تكريمه وتأبينه بعد وفاته وهو ما حاولت السلطات منعه بقوة وحسم حتى حاصرت بيت الراحل الكبير ومنعت مظاهر العزاء الشيعية التقليدية مما أدى إلى انفجار المظاهرات في ذكرى عاشوراء المقدسة عند الشيعة كبديل عن الأنشطة التي تم منعها. تطفو على السطح ميادين أخرى للخلاف تتركز في إدارة العديد من الملفات أهمها: • الملف النووي وتطوراته. • العلاقة مع الجيران خاصة دول الخليج والعالم العربي. • العلاقات الدولية مع الغرب خاصة أمريكا وأوربا. • الحريات العامة وخاصة حرية التعبير والصحافة والتظاهر والتنظيم. • الملفات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. لا تسمح مساحة المقال ببيان وجهات النظر المختلفة وكيف تطورت إلى هذا الحد ولكن الأهم هو تطاير اتهامات بالتآمر والخيانة والنفاق كما حدث في المظاهرات الحاشدة التي أيدت النظام ردا على مظاهرات يوم عاشوراء، والسبب هو عدم قدرة النظام على التعتيم على احتجاجات الإصلاحيين منذ 9 شهور في أعقاب فوز نجاد بالرئاسة الذي تسبب في تصاعد الخلاف حيث حسم النتيجة من الجولة الأولى وبنسبة أصوات عالية مشكوك فيها والاعتراف بحدوث تزوير والإصرار على عدم إعادة الانتخابات، وتسريب صور الاحتجاجات عبر المواقع الالكترونية والتليفونات المحمولة وسارع إعلام بريطانيا (BBC) وأمريكا (CNN) على تصدير نشراتها الإخبارية بصور المتظاهرين واستضافة المحللين الذين يصورون الأحداث على أنها انقلاب على النظام وبدايات ثورة جديدة وانفلات لأعصاب النظام وفى هذا تضخيم هائل مما أدى إلى عصبية شديدة في التعامل وتهديدات خطيرة بالخيانة والتآمر. هذه الأحداث التي لم تتوقف منذ الانتخابات الرئاسية بل تصاعدت وتتزايد مع مرور الأيام والشهور تحتاج من المفكرين الإيرانيين والفقهاء والباحثين الشيعة في كل العالم بل والناشطين والحركيين الإسلاميين في البحث والدراسة والتفكير الهادئ المتزن حول أهم ما أفرزته الأحداث وهى: 1. فكرة المعارضة في كل أطيافها وتنظيم التعددية الحزبية في إطار نظام إسلامي. 2. فكرة التعددية داخل الإطار الإسلامي وحتى داخل الحزب الواحد أو الحركة الإسلامية بدءا من تعدد الحركات الإسلامية وقبولها لكل منها وصولا إلى وجود اختلاف رأى واسع داخل الحركة الواحدة. 3. الضوابط الموضوعية للإعلام والتعامل مع الإعلام الخارجي. 4. دور العوامل الخارجية في تأجيج الصراعات الداخلية أو تضخيم الخلافات. تذكرنا تلك الأحداث في إيران الآن بأحداث سبقت وللأسف لم يتم الاستفادة منها ولا دراستها بعمق ولا وضع تصورات فكرية وعملية لضبطها في إطار محدد أو وضع تنظيم دستوري وقانوني لها. الأحداث السابقة هي تلك التي وقعت بين المجاهدين الأفغان أثناء الجهاد وعقب الانتصار الكبير وعلى مشارف دخول "كابول" وكانت النتيجة بروز حركة "طالبان" من رحم الأجهزة الباكستانية وسيطرتها على البلاد واحتضانها لتنظيم القاعدة وهو ما أوصلنا الآن إلى اتهام الإسلام بالإرهاب وحالة "الإسلاموفوبيا" عقب أحداث سبتمبر 2001م التي مازال يلفها الغموض الشديد بسبب عدم إجراء تحقيق جاد فيها ودخلت أفغانستان نفسها في نفق الاحتلال من جديد وغرقت أمريكا وأوربا في المستنقع الأفغاني مما يجعلنا نتفاءل ببداية النهاية للإمبراطورية الأمريكية كما سقطت السوفيتية وفشل الاحتلال البريطاني من أكثر من مائة عام في القرن التاسع عشر الميلادي. وقريبا أيضا وفى نفس السياق كان الخلاف بين شركاء الانقلاب في السودان الذي أوصل السودان إلى تنازلات خطيرة مع الحركة الشعبية في الجنوب مما يهدد بانفصال الجنوب بعد استفتاء تقرير المصير عام 2011م وانتهاء بأزمة دارفور التي تنذر بتدخل دولي جديد ويتهم النظام قادته بالأمس بالتورط في تلك المؤمرات. وفى الحالتين بذل علماء ومفكرون وقادة للحركات الإسلامية جهودا مضنية لتقريب وجهات النظر ورأب الصدع بين أخوة الأمس الذين تحولوا إلى خصوم وأعداء وسالت في أفغانستان دماء طاهرة فشل السوفييت في قتل أصحابها، وسجن في السودان زعماء وقادة كانوا في الرأس سابقا. المطلوب ليس مجرد إجراء الصلح والوفاق وهو مطلوب بقوة، ولكن المطلوب هو البحث والدراسة في حال إذا فشل الصلح: ماذا يكون العمل ؟ ويبقى السؤال : إلى أين تسير إيران ؟ وهل تنجح في إدارة الخلاف الذي تحول إلى صراع في الشارع ؟ وهل تقطع الطريق على التدخلات الخارجية المغرضة ؟أم أن الأمور تسير إلى مزيد من التأزيم.