مصر هبة الله.. وقد وصفها الخالق سبحانه بما يثبت تميزها: فهى خزائن الأرض كما قال سيدنا يوسف: (اجعلنى على خزائن الأرض..)، وهى أرض الجنات والعيون والزروع التى حُرم منها فرعون: (كم تركوا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين..)، وهى موطن الأغذية المحببة للإنسان.. فعندما لم يصبر قوم نبى الله موسى على طعام واحد، وطلبوا ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال: (اهبطوا مصرًا فإن لكم ما سألتم..)، وعندما وصل إليها سيدنا يوسف قال تعالى: (وكذلك مكنا ليوسف "فى الأرض"..). فمصر النيل أرض معطاءة خصبة، تتميز بالخصوبة وجودة المنتجات الزراعية. ويدرك ذلك من سافر ورأى وتذوق الفواكه والخضراوات بالدول الأخرى، حيث لا يمكن مقارنتها بالمنتجات المصرية، رغم الإهمال التاريخى للزراعة والمزارعين، وعدم وجود "خطة" للاستفادة من تلك المزايا. ولا شك أن هذه الخيرات التى وهبها الله تعالى لمصر وأهلها، جاءت عن طريق مياه النيل بعذوبتها وطميها، إلى جانب الفلاح الأمين المثابر. فمياه النيل هى حياتنا ومستقبلنا، والحفاظ عليها وعلى نقائها والاقتصاد فى استهلاكها يجب أن يكون الأولوية الأولى للحكومة. فهل السياسات الحكومية كانت يومًا رشيدة فى التعامل مع النيل؟.. للأسف لا، فقد أجرم المخلوع فى حق النيل، ولم تفعل حكومة الثورة شيئًا يذكر لوقف تلويثه أو إزالة التلوث أو تقليله، ولم تفكر فى وضع سياسة لترشيد استهلاك المياه وإنشاء نظم متطورة للرى تستفيد من التقنيات الحديثة، بل لم تغير سياسة التوزيع الظالم للمياه بحرمان الفلاحين؛ لصالح المنتجعات وملاعب الجولف وملاك المساحات الكبيرة الذين استولوا على أراضى الدولة فى زمن المخلوع، وهى أراض صحراوية تصعب زراعتها وتستهلك مياهًا كثيرة. وكانت النتيجة حرمان أراضى الدلتا القديمة المنتجة من المياه، التى لم تعد تصل إلى نهايات الترع والقنوات.. لدرجة أن الشبكة التاريخية التى أنشأها محمد على، وحافظ عليها المزارعون رغم غياب سياسة حكومية لتطويرها بدأ بعضها يُردم ويختفى بسبب الجفاف الذى أصابها فى ذلك الزمن الرديء! ماذا يفعل المزارع وقد غابت عنه المياه؟.. هل يجلس على رأس أرضه البور ويضع يده على خده، ويقول: (النيل ما جاش)؟!.. وإذا فعل ذلك فمن أين يأكل هو وأولاده؟ لقد أدت هذه السياسة الفاسدة إلى أخطر نتيجة، وهى اضطرار المزارعين لرى أراضيهم من مياه الصرف المتوافرة بالمصارف. وهى مياه لا تصلح للزراعة، لأنها ليست فقط مياه صرف زراعي.. فالقرى كما نعلم مهملة تاريخيًا ولا توجد بها شبكات للصرف الصحي، واضطر الناس لإنشاء شبكات بدائية تصب فى هذه المصارف دون معالجة. وقد تفاقمت الكارثة بعد الثورة، وأدت الفوضى التى صاحبت المرحلة الانتقالية إلى تصريف المجارى فى الترع والقنوات المخصصة للري! لذا فمياه الرى الحالية التى نأكل من إنتاجها ليست مياه النيل العظيم، وإنما مياه (المجاري) بما فيها من تلوث وقذارة! لو أن لدينا حكومة رشيدة تحرص على صحة شعبها لحافظت على مصدر حياة المصريين واهتمت بالنيل وطورت نظم الري، أو لقامت بإنشاء نظم بديلة للاستفادة من المياه الجوفية، وفى أسوأ الأحوال كان يجب وضع خطة سريعة لإنشاء محطات لمعالجة مياه الصرف الصحى قبل إفراغها فى الترع والمصارف الزراعية. لقد كشفت هذه الكارثة عن الغياب التام لأجهزة الرقابة على المواد الغذائية.. إذ لا شك أن منتجاتنا الزراعية الآن ملوثة وغير مطابقة للمواصفات، ولا تصلح للاستهلاك الآدمي. فأين هى المواصفات؟ وأين الرقابة؟ وأين معامل التحليل؟ وأين الدولة نفسها؟.. لماذا لم نسمع عن (ضبط) مواد غذائية ملوثة؟!.. هل أجهزة الرقابة تعمل وتعلم بالكارثة والحكومة تمنعها من الإعلان عنها؟.. أم أنها أجهزة ورقية لا تعمل والحكومة لا تدري؟ كيف يميز المواطن بين منتجات الأراضى (القليلة) التى لم تحرم من مياه النيل وبين منتجات مياه الصرف؟.. هل مطلوب من المواطن أن يحمل معملاً للتحليل الكيميائى، وهو ذاهب إلى السوق لكى يختبر ويتجنب المنتجات الملوثة؟! بالله عليكم أجيبونا: ما لكم؟ كيف تحكمون؟! إن ألف باء السياسة الرشيدة أن نستخدم الأسلوب العلمى فى دراسة مشكلاتنا وإيجاد الحلول لها.. فإن اضطرت الدولة لاستخدام مياه الصرف للرى (وهذا غير منطقى فى بلد النيل)، كان لابد أولاً من تجريب الزراعة بهذه المياه فى حقل تجريبي، ثم اختبار منتجات هذا الحقل بالتحليل الكيميائي، ومن ثم نقرر هل يسمح باستخدام هذه المياه فى الري؟ أم أنها تحتاج لمعالجة معينة لتصلح للزراعة؟ أم تصلح لأنواع من المزروعات دون أخرى؟ أم لا تصلح مطلقا، ويجب منع الرى بها مع سرعة توفير بدائل؟ هذا واجب الحكومة دون غيرها، والمفروض أن هناك أجهزة قائمة للقيام بذلك تلقائيا، دون انتظار حدوث كارثة لكى نتحرك.. ولدينا العديد من مراكز البحوث وأجهزة الرقابة، فلماذا لا تعمل هذه الأجهزة؟ هل هى الغيبوبة الحكومية التقليدية التى لا تفيق الدولة منها إلا عند وقوع كارثة؟ يجب وقف هذه الفضيحة فورًا وتجريم صرف مياه المجارى بالنيل وفروعه، ومنع استخدام مياه الصرف لرى الأراضى الزراعية، خصوصًا بعد تواتر الأنباء الطبية عن إصابة 32% من أطفال مصر بالتقزم بسبب مزروعات المجاري. لقد ذهب المخلوع وبقيت هذه القنبلة البيئية، وهى مشكلة خطيرة جدًا.. وإذا أضفنا إليها مشكلة اضطرار بعض ملاك الأراضى الزراعية إلى تبوير الأراضى عمدًا بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج نتيجة لندرة المياه وارتفاع أجور العمال وانخفاض أسعار المحاصيل، لأدركنا أن مصر النيل والخير مقبلة على مجاعة بسبب سوء أو انعدام التخطيط. فهل من قارئ مسئول يفهم ويدرك خطورة الأمر؟.. هل من مجيب؟! [email protected]