سمعت عن اللواء الفاتح كريم لأول مرة أثناء خدمتي بالقوات المسلحة مدة خمسة سنوات، عن طريق علاقتي الوثيقة بنجله الرائد كريم الفاتح، وكان يدرس لنا بمعهد المشاة، ثم رأيت سيرته تترد فى الآفاق كأبطال الأساطير فى السير الشعبية مثل على الزيبق، والظاهر بيبرس، وأبو زيد الهلالى، وقد حكى لى ابنه الكثير من مواقفه، ودوره فى حرب 1973 ، ثم ظللت أنقب عنه فى كل الكتب التى أرخت لحرب أكتوبر وخصوصا فى كتاب الكاتب الصحفى عبده مباشر الذى صدر عام 1974 ، وكتاب الفريق يوسف عفيفى "أبطال الفرقة 19 مشاة"، وذات يوم قابلت أحد الضباط فى سيناء.. فى الوحدة التى كنت أخدم بها.. جاء لتنفيذ مهام العمليات، فحكي لى قصة ظريفة، كأنها من نسج الخيال وهو أن اللواء الفاتح زار أحدى الوحدات الصغرى التى تولى قيادتها بعد حرب 1967 ، وصودف أن ابنه تولى قيادتها أيضا، وقرر أن يلتقى بالجنود الذين جلسوا على الأرض كى ينصتوا للقائد الأسطورة، وكانت المفاجأة أن قرر الفاتح أن يجلس مع الجنود مثلهم على الأرض، وحاول الضباط إثناءه وجعله يجلس على المنصة التى أعدت له، ولكن الرجل صمم أن يمكث بين جنوده على الأرض والرمل مثل أبسط جندى حضر اللقاء وجلس يحث الجنود على البذل والعطاء ساردا له مواقف وبطولات خاضها الجيش المصرى عبر عصوره المجيدة، وظل يتجول معهم فى دروب التاريخ من حطين إلى عين جالوت إلى مرج الصفر إلى دحر حملة نابليون وصولا إلى يوم العاشر من رمضان حيث تحققت المعجزة برجوع الناس إلى ربها ودلل على كلامه من القرآن: (إن تنصروا الله ينصركم)، (وما النصر إلا من عند الله) ، وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم: (إذا فتح الله عليكم فاتخذوا منهم جند كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض)، ووجهه كلامه إلى القادة وخصوصا قائد الكتيبة قائلا: "اجلسوا إلى هؤلاء الجنود فهم الذين يصنعون النصر، وقد توليت كل المناصب وما وجدت منصبا أعظم من منصب قائد الكتيبة لأنه أكثر التحاما مع جنوده وضباطه" ثم دعا لهم بالتوفيق. ثم حاولت الاتصال به مباشرة وكان الرجل عطوفا ودودا كريما فى كلامه وتصرفاته وتواضعه، وضربت معه موعدا ، فذهبت له والتقيت به فى لقاء امتد من العاشرة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر"، وسوف نعود لسرد بعض وقائعه بعد التعريف به. حياته: ولد اللواء محمد الفاتح كريم مهنى أبو عمر سنة 1931م بقرية الشيخ تمي، التابعة لمركز أبى قرقاص بمحافظة المنيا ، وهذه القرية عريقة في القدم ، تقع بجوار أرض الحضارات، ففي شمالها منطقة آثار بني حسن الشروق، وفى جنوبها تقع قرية أنصنا (الشيخ عبادة) الآن، وهى القرية التي ولدت فيها السيدة ماريه القبطية زوج الرسول عليه الصلاة والسلام. ولد لأسرة عريقة في المجد والشرف، تحدث عنهم على مبارك ( باشا) في كتابه (الخطط التوفيقية) عندما تحدث عن قرية "الشيخ تمي" قائلا : "وفيها بيت أبى عمر(أجداد الفاتح) مشهور يشمل على قصور ومضايف تشبه قصور مصر(القاهرة)، وكان محمد أغا أبو عمر ناظر قسم "ساقية موسى" زمن العزيز محمد على باشا، وفى زمن الخديوي إسماعيل ترقى أبنه يوسف فكان ناظر قلم الدعاوى بمديرية أسيوط ، وهم مشهورون بالشجاعة وعندهم الخيل الجياد). أ.ه وقد أنجبت هذه القرية العديد من الأعلام والمشاهير، منهم : خاله الكاتب الكبير أحمد رشدي صالح ، رائد الدراسات الشعبية ، وقد استوحى هو من حياة هذه القرية رائعته "الزوجة الثانية"، التي أخرجها للسينما صلاح أبو سيف ، ومنها سامح كريم الكاتب بالأهرام وهو شقيق الفاتح، والمهندس أحمد الليثى وزير الزراعة الأسبق وغيرهم ... تعلم في مدرسة أبى قرقاص الابتدائية، وكان الأول على أقرانه، وظهر نبوغه وذكائه المبكر الذي كان مثار إعجاب مدرسيه، وقد انتقل هذا التفوق معه حينما التحق بمدرسة المنيا الثانوية، وكانت الوحيدة بمديرية المنيا، وأنجبت العديد من الأعلام الشوامخ منهم: زميله الفريق صفى الدين أبوشناف، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، وكان لهذه الأسرة دورها النضالي، إذ اشترك رجال كثير منها في جميع مراحل النضال والكفاح فى تاريخ مصر، ظهر ذلك جلياً في الثورة العرابية، وأحداث ثورة 1919م، وغيرها ، وحديث والده له عن البطولة والأبطال، كل ذلك ألهب شعوره، وزاد من حماسه، وتمنى أن يخدم وطنه وأهله، وخصوصاً في فترة صعبة من تاريخ العرب، إذ وقعت نكبة فلسطين المروعة 1948م، فقرر الالتحاق بالكلية الحربية، وكان أثناء الدراسة بها أن أشتد الكفاح ضد الإنجليز في منطقة القنال .. وكذلك نشط التذمر داخل الجيش الذي كان الملك فاروق يتفاخر به بأنه ذراعه القوى وسنده في مواجهة الأخطار، كل ذلك لم يغب عن الطالب محمد الفاتح بل تأثر به أيما تأثير. وبزغ فجر 23يوليو 1952م ، والاستعداد على قدم وساق لحفلة التخرج ، حيث كان من المرتب لها حضور الملك الذي أطاح به الثوار ، وحضر حفل التخرج اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ، ولفيف كبير من الضباط الأحرار ، وكان الجو يسوده الدفء والقائد الذي قاد الثورة ضد الفساد يحثّهم على مواصلة الكفاح لرفعة هذا الوطن ، وكان من دفعته الشهيد إبراهيم الرفاعى، والشهيد نور الدين عبدالعزيز، والبطل محمود المصري، وانضم إلى سلاح المشاة "سادة المعارك "، وشارك في عمليات 1956م أثناء العدوان الثلاثي وكان قائداً لحامية غزة تولى هذا المنصب عقب مقتل قائدها النقيب محمود صادق وقتل معه عدد كبير من أبطال الحامية ، وبعد انتهاء الحرب خدم في سلاح الحدود مأموراً لقسم مرسى مطروح ، ثم مأموراً لقسم رأس غارب ، والجدير بالذكر أن محافظات: (البحر الأحمر ومرسى مطروح وأسوان) كانت تتبع قوات حرس الحدود، ثم عاد لسلاح المشاة، وخدم في حرب اليمن، رئيسا لعمليات إحدى كتائب المشاة واستمر عامين هناك. وتأتى حرب يونيه 1967م حيث كان قائداً ثان لإحدى الكتائب الميكانيكية وفي هذه الحرب التي لم تعط الفرصة للجندي ليقاتل، بل أُخذ على حين غرة بجهل القادة في التوقيت الحرج بظروف الحرب، وكان وقوع الكارثة، ولكنه لم يستسلم المقاتل المصري إذ بدأ في إعادة البناء والاستعداد ليوم الثأر، وفى هذا التوقيت يتولى الفاتح قيادة الكتيبة 20 وأخذ يدرب أبنائه ليل نهار بنفس راضية ، وروح معنوية عالية ، يشارك في مراحل التدريب ، ويجلس معهم يعرف ظروف كل مقاتل ونجح في ذلك نجاحاً باهراً، أغرى قادته بترشيحه معلماً بالكلية الحربية يعلم فيها الكوادر الجديدة الاستعداد ليوم الكرامة ، والتحرير واستمر في عمله هذا حتى عاد للجبهة قائداً للواء الثاني مشاة ميكانيكي ، الذي كان يتبع الفرقة 19مشاة ، وكان يقودها العميد أركان حرب يوسف عفيفي (الفريق فيما بعد) ، ورقى الفاتح إلى رتبة العميد بعد أن وضعت الحرب أوزارها ، ثم تولى منصب رئيس أركان الفرقة الثالثة مشاة ميكانيكي فقائدا لها، فرئيسا لأركان المنطقة الجنوبية ، فقائداً لها، حتى تقاعد 1985م، وبعد أن خرج من الجيش قام بترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب سنة 1987م حتى تم حل المجلس 1989م وبعدها اعتزل الحياة العامة .. دوره في حرب أكتوبر كان الفاتح كريم قائداً للواء الثاني مشاة ميكانيكي في حرب أكتوبر 1973م وكان هذا اللواء يتبع الفرقة 19مشاه - كما سبق أن أ وضحنا وكانت مهمة هذه الفرقة اقتحام القناة في القطاع الجنوبي وحصار وتدمير وتصفية النقاط القوية بلسان بور توفيق، والجباسات، وعند علامات كم 149، و148، و146، والاستيلاء على الساتر الترابي المطل على القناة المكون من 91 مصطبة مجهزة بالإضافة إلى 22مصطبة بالعمق شرق الجباسات وحول ممر متلا .. وكانت مهمة اللواء الثاني هي تحرير جبل المر، الذي يبعد عن القناة بحوالي 15 كم في اتجاه الشرق ويبلغ طوله 6 كم وارتفاعه حوالي 117م، وتحيط به غرود رملية يصعب سير المركبات بها ، وهو يمثل هيئة حاكمة استغله العدو بعد حرب يونيو، وأقام فوقه نقطة ملاحظة ومرابض لنيران مدفعيته بعيدة المدى للسيطرة على المنطقة الممتدة شرق وغرب القناة. وكان لابد من الاستيلاء على هذا الجبل، وعندما بدأت قوات الفرقة 19 فى تطوير الهجوم يوم 9أكتوبر، قام اللواء الثاني بالتقدم واقتحام مصاطب العدو وبدأ طيران العدو يتدخل لوقف الهجوم بعد أن توغل المهاجمون مسافة 9كم وتشتبك عناصر الدفاع الجوى مع طيران العدو وتنجح في إسقاط طائرة "سكاى هووك" وأسر الطيار حياً ويواصل الرجال تقدمهم ويجتازون الغر ود الرملية. وينجح المهاجمون في احتلال أجناب الجبل، بعد أن تعامل أطقم قنص الدبابات مع دبابات العدو التي دخلت المعركة بضراوة وقد قام العقيد الفاتح بقيادة سرية مشاة التي من المفترض أن يقودها نقيب أو رائد يعاونه العقيد أركان حرب على الغليظ ، وتمكن بها من اعتلاء الجبل واحتلاله نهائيا، وقد عرف القاصي والداني بقصة هذا النصر العظيم وقد كرمه الرئيس السادات بمنحه وسام نجمة الشرف العسكرية من الطبقة الأولى لم تمنح لغيره سوى قائد الجيش الثالث اللواء أركان حرب عبد المنعم واصل، والعميد أركان حرب أحمد بدوى قائد الفرقة السابعة، والعميد أركان حرب يوسف عفيفي ، والعقيد على الغليظ قائد كتيبة باللواء الثاني، وهو أرفع وسام عسكري وإطلاق أسمه على جبل المر، وكذلك إطلاق أسمه على أحد الشوارع الكبيرة بمصر الجديدةبالقاهرة. مواقف وطرائف مشاكس بطبعه: كان الفاتح كريم حرا متمردا بطبعه واصطدم بقائده عندما ذهب لأول مرة إلى التشكيلات، فأراد القائد أن يتخلص منه عندما طلب من الوحدة التى يخدم فيها أن ترسل أحد الضباط للانتداب فى سلاح حرس الحدود، فقرر القائد إدراج اسمه فذهب إلى قطاع غزة، خلفا لليوزباشي محمود صادق الذى تم قتله مع القوة التى تحمى غزة عام 1955، وتندلع حرب 1956 ويأسره الإسرائيليون وتم الإفراج عنه بعد انتهاء العدوان وجلاء القوات المعتدية، ومرة أخرى اصطدم مع الرئيس السابق مبارك عندما زار أسوان فى بدايات حكمه، وكان الفاتح يتولى قيادة المنطقة الجنوبية، وسأله مبارك عن الأمن الغذائي فرد عليه بكل ثقة: أنا قائد.. مالي ومال الأمن الغذائي.. أنا لست مهندسا زراعيا، فغضب مبارك وحدثه بلهجة الآمر: موعدنا فى منقباد حيث قيادة المنطقة الجنوبية، فلم يأبه بوجوده والعجيب أن مبارك لم يحتك به حتى خروج الفاتح على المعاش سنة 1985. الفاتح يقابل المقدم حبيب العادلى: كان اللواء المشاة الذى يقوده الفاتح فى حرب أكتوبر هو اللواء الميكانيكى الوحيد فى الفرقة 19، وكان هذا اللواء نسق ثان للفرقة، وكان من المقرر أن يهاجم يوم 9 أكتوبر، فتم أخذ كتيبة منه لتدعيم وحدات الفرقة الأخرى فى الهجوم فى اليوم الأول للقتال، وكان يقود هذه الكتيبة المقدم سعد العادلى، وما أن شاهد وطيس القتال قد اشتد، أصيب بهستيريا وجعل يجرى حتى أوى إلى مسجد الشهداء بالسويس وجعل يصرخ فى محراب المسجد وقال: (نكسة 1967 رجعت تانى)، فحوله الفاتح لمحاكمة عسكرية عاجلة قضت بإعدامه وصدق على هذا الحكم اللواء مصطفى شاهين رئيس أركان الجيش الثالث، وفى الغد جاء إلى الفاتح ضابط شرطة برتبة مقدم، جاء يتوسل الفاتح بالعفو عن سعد العادلى، وكان مطأطأ الرأس، خفيض الجناح، متهدج الصوت، فرد عليه بحسم وقال له: "خلاص قضى الأمر"، وكان هذا الضابط هو حبيب العادلى زوج أخت سعد العادلى وابن عمه أيضاً وهو الذى تولى وزارة الداخلية بعد ذلك ونزيل السجن اليوم، المهم عقب انتهاء الحرب أفرج عن سعد العادلى ويصيب بسكتة قلبية بعد بضع شهور وكأن العدالة الإلهية قضت بعقابه. وحكى لى الرجل أمور كثيرة يصعب حصرها فى هذا المقال ، وأخبرنى أنه دون مذكراته ، وكان يود طبعها لولا إدراكه للروتين المتبع حيال هذا النشر بالتعلل بأنها أسرار عسكرية، وهو متمرد لا يتحمل هذا الروتين من ضباط فى سن أولاده، وخول لى هذه المهمة عندما نلتقى مرة أخرى ولكن الظروف حالت دون ذلك، وكنت اكتفى بسماع صوته وفى أحد المرات احتد معى بسبب مرضه، فعند الاتصال به فى مرة أخرى أخذ يعتذر لى ويكرر هذا أكثر من عشر مرات، كان ودودا وقورا يمتلك أخلاق الصديقين وقد غضب بشدة من الرأى القائل بالتشكيك فى قتال الملائكة فى حرب أكتوبر والذى نادى به فؤاد زكريا، فاحتد وغضب ووبخ هذا الرأى، كان الرجل وثيق الصلة بالله، متدينا مطيعا لأوامره. وقد حزنت لرحيله يوم الجمعة الماضى 29/3/2013، فى جنازة مهيبة حضرها السيد الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع والإنتاج الحربى وكبار قادة القوات المسلحة من أبنائه المخلصين.