لقد وقف كثير من الكتاب الغربيين، الذين درسوا تاريخ انتشار الإسلام بحيدة وإنصاف، وقفوا مذهولين أمام السرعة التي انتشر بها هذا الدين. فالمسلمون الذين أزالوا بالفتوحات الإسلامية قوى الهيمنة الاستعمارية الروم والفرس عن كاهل الشرقيين والذين فتحوا في ثمانين عامًا أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون! قد حرروا الأوطان والضمائر والعقائد الدينية، وتركوا الناس وما يدينون، حتى أن الدولة الإسلامية، بعد قرن من الفتوحات كانت نسبة المسلمين في رعيتها 20% فقد لاغير!.. لكن جماهير غير المسلمين الذين دافعوا عن عقائدهم ببسالة نادرة أمام الاضطهاد الروماني لعدة قرون لم يلبثوا بعد التعرف على الإسلام أن دخلوا أفواجًا.. حتى لقد تحول الشرق من قلب للعالم المسيحي إلى قلب للعالم الإسلامي في سرعة قياسية غير معهودة في تاريخ انتشار الديانات. ولقد ذهب بعض علماء الغرب في تعليل هذا الانتشار السريع للإسلام فعزوه إلى تميز عقائد الإسلام بالمنطق والعقلانية التي جعلته دين الفطرة، والتي حققت له الانتصارات السريعة على النصرانية، التي كانت قد أفسدتها الثقافة الهلينية الأفريقية، وأغرقتها في الباطنية والسفسطة والأسرار والألغاز.. ذهب إلى هذا التعليل العلماء والفلاسفة واللاهوتيون الأمريكي "تايلور" (1753 1824م) والفرنسي "مونتيه" (1856 1927م) والإيطالي "مراتشي" (1612 1700م) والعلامة "كيتاني" (1869 1926) الذي قال : "إن الشرق الذي عرف بحبه للأفكار الواضحة البسيطة، قد كانت الثقافة الهلينية وبالاً عليه من الوجهة الدينية، لأنها حولت تعاليم المسيح البسيطة إلى عقيدة محفوفة بمذاهب عويصة، مليئة بالشكوك والشبهات.. فلما أهلّت أنباء الوحي الجديد من الصحراء لم تعد تلك المسيحية قادرة على مقاومة إغراء هذا الدين الجديد.. وحينئذ ترك الشرق المسيح وارتمى في أحضان نبي بلاد العرب". ومع صدق هذا التعليل في سرعة انتشار الإسلام فإن هناك عاملاً آخر قل من ألتفت إليه وهو وجود قطاعات واسعة من النصارى الموحدين، الرافضين لمسيحية "بولس" التي ألهت المسيح .. ولقد وجدت هذه القطاعات في التوحيد الإسلامي ضالتهم المنشودة، كما وجدوا في الفتوحات الإسلامية خلاصهم من الصراعات المريرة التي كانت قائمة بينهم وبين النصارى الذين عبدوا المسيح، واعتقدوا بالصلب والتثليث.. فدخلوا في الإسلام فور بدأ الفتوحات.. وحاربوا في صفوف الجيش الإسلامي حتى قبل سقوط الإسكندرية بين المسلمين الفاتحين كما يقول العلامة الإنجليزي "سير. توماس أرنولد" (1864 1930م) صاحب كتاب (الدعوة إلى الإسلام). أما عقيدة هؤلاء النصارى الموحدين، فلقد صاغ "قانون إيمانهم" أشهر أساقفة النصارى الموحدين في ذلك التاريخ "آريوس" (256 336م) الذي قال: "إن الله جوهر أزلي أحد، لم يولد، ولم يلد، فكل ما سواه مخلوق، حتى "الكلمة".. و"الكلمة"، كغيره من الكائنات، مخلوق من لا شيء، وليس من جوهر الله في شيء.. وقد كان زمان لم يكن فيه "الكلمة"، ثم كان ، بملء إرادة الله، لا بالضرورة، فليس إذن هو الله، ولا من جوهر الله، بل هو متميز عنه أقنوما وطبعًا". هكذا جاء الإسلام مصدقا للتوحيد الذي جاء به المسيح.. وهكذا وجد النصارى الموحدون ضالتهم في التوحيد الإسلامي، وفي الإسلام الذي يؤمن بكل النبوءات والرسالات.. فلم يحتاجوا إلى التخلي عندما أسلموا عن شيء مما لديهم، وإنما أضافوا إليها الإيمان بالوحي الخاتم القرآن الكريم وبالنبي الذي جاء مصدقًا لكل الكتب والنبوءات والرسالات.. ولعل في هذا أيضًا التفسير لتقبل "النجاشي" عقيدة الإسلام في المسيح ومريم.. فلقد كان من النصارى الموحدين.