يرحل عنا الدكتور عبد الكريم الهيتي بهدوء، كما عاش بيننا في هدوء وسكينة، ينشر الفرح ويزرع الأمل وينظر إلى البعيد بكل تفاؤل. جاءنا قبل عشر سنوات من العراق أستاذاً للأدب العربي في جامعة البحرين فسكن القلوب وعمّرها بالحب. وهو من نوعية فريدة من جنس البشر من الذين تصادفهم لأول مرة فتحس بأنك تعرفهم منذ سنين وسنين. في العلاقة مع الدكتور الهيتي، الذي غادر دنيانا الأسبوع الماضي، ليس هنالك من تحفظ. فتواضعه يغمر الجميع. وروحه المرحة، رغم جراحات العراق، تجعلك تأنس هذا الإنسان البالغ التهذيب. فصاحته في الحديث وبلاغته يجعلهما حينما يحاضر في الأدب العربي، فيسبح بالطلاب إلى آفاق اللغة الساحرة. وهو فوق ذلك، قريب إلى قلوب طلابه، يسأل عنهم ويتلمس همومهم ويقف على حاجاتهم من دون منّة ولا ملل. وسمعت أنه يتواصل مع المتخرجين فيحل مشكلاتهم، ويتوسط للعاطل منهم وكأنهم أبناؤه. ولاشك أن رحيله المفاجئ قد ترك فراغاً قاتلاً ووحشة يعانيها طلابه ومحبوه في كلية الآداب. كنت أساله كلما لقيته عن أحوال أهلنا في العراق، فأعجب من صوته الواثق ورده الحاضر بأن الحال بخير والأمل بالله كبير. كان يقول: "الأمريكيون سيرحلون حتماً. لن يتحملوا خسائر البقاء. أرض العراق أحرقت وتحرق أقدامهم وملايينهم. والنفط الذي جاءوا من أجله أصبح مكلفاً لاقتصادهم للغاية". ثم يضحك ساخراً: "آكو عاقل يجي ويحتل العراق، هاذوله العراقيين يابه". كانت رؤية الدكتور الراحل عبد الكريم الهيتي واضحة إزاء محنة بلده العراق. "الخطر على العراق من أمريكا ليس كبيراً. الخطر الأكبر هي إيران، ذات المشروع المذهبي التي تعيش الآن وعلى جراح العراقيين أزهي عصور الانتقام. إيران ترى في عرب العراق أكبر الأخطار على مشروعها التوسعي. وستحاول جعل البلاد تحت رحمة التخلف والتمزق، حتى لو أصبح كل العراق شيعياً. وستعمل على إدامة حال الفقر والفرقة وتشريد كل كفاءة عراقية أو تصفيتها، سنية كانت أو شيعية أو كردية". يقول: "حذرنا من ذلك قبل سقوط بغداد وبعد سقوطها. فاتهمونا بإثارة الطائفية. والآن تشرف مخابرات إيران وبكل أجهزتها على إثارة كل النعرات الطائفية والعرقية والمذهبية، وحتى بين الطائفة الشيعية العراقية نفسها، بتأليب فريق ضد فريق وحزب ضد آخر. ويكون تارة بالإغراء بالمال أو بالمناصب وأحياناً بالتهميش وبالتصفية المباشرة وبالتفجير الإجرامي وإلصاق ذلك بالقاعدة". يحدثني فيقول: "ورغم كل هذه الجهود الجبارة التي تقوم بها إيران داخل العراق إلا أنهم في حيرة وقلق من استمرار المقاومة. لقد صرفوا الكثير من المال والسلاح. وإذا كانت أمريكا بكل جبروتها العسكري والإعلامي والمخابراتي لم تصمد في العراق، فإن ذات المصير هو ما يواجه إيران اليوم بالضبط. لقد صار تدخلها سافراً لكل من شكك في كلامنا في السابق، بل وصار بعض عملائها يجاهرون بذلك دون خجل. وصار المواطن العراقي يشاهد بأم عينه ما تفعله إيران من تدمير إجرامي للبلد. وهذا ما جعلت مجاميع من أحرار العراق على اختلاف مذاهبهم ينضوون للمقاومة. وهذا أمر مرعب لطهران. ويسبب لها القلق الدائم. ولهذا تلجأ للتفجيرات الدامية التي حدثت في شهر أكتوبر (الماضي) لاثبات قوتها على الأرض". كان كلما يلقاني يتهلل وجهه بالبشر، ويقول: "أبشر العراق أصبح بخير، وهو إلى خير. والأمل كبير. لقد وعى الجميع الدرس وعرفوا حجم المؤامرة. وعندما ينهض العراق سيُنهض من حوله. وأعداؤنا استهلكوا كل ما في جعبتهم من أحقاد وإجرام. هزيمة الغزاة والمحتلين مسألة وقت. ونحن نرى ذلك قد بدأ. وغدا سترى ذلك بعينك، وتقول صدق الهيتي". * أكاديمي بحريني