يذكر كثير من الباحثين ان منهج ابن تيميه الإصلاحي يمثل المعالم الرئيسية للحركة الإسلامية المعاصرة.ذلك انه فى الربع الأول من القرن الثامن عشر كانت هناك حلقتان من حلقات التدريس تدرس فقه بن تيميه واحدة فى دمشق والثانية فى المدينةالمنورة- وهى الاهم- كان يشرف عليها الشيخ محمد حياه السرهندى وتخرج من هذه الحلقة رجلان مهمان: ولى الله الدهلوى الذى اشتهر فى الهند ومحمد بن عبد الوهاب الذى اشتهر فى الجزيرة العربية.فعمل الرجلان على إحياء فكربن تيميه فى مجال العقيدة لتحريرها من ألوان الضلال والشرك وتأصيلا لحرية الإنسان ومسؤوليته وتحميلا للامه أمانه الدين وإقامة الشريعة لوصل العلاقة بين الأمة ومصدرقوتها(الكتاب والسنة)..من ذلك النبع خرج جمال الدين الافغانى ومحمد عبده والسنوسى فى ليبيا وبن عاشورفى تونس وبن باديس فى الجزائروالإخوان المسلمون فى مصر وكل العالم العربى.وهو ما يجيز لنا ان نقول أن بن تيميه هو أبو الصحوة الإسلامية بلا منازع.بالرغم من انه لم ينجح فى عصره وعاش سنين اضطهاد طويلة..ذلك أن عصره ( 1263م-1328م )كان مثقلا بكل أشكال الانحطاط وليعاذ بالله . جاء بن تيميه فكان بحق طودا شامخا على رأس المائة السابعة للهجرة.فقدم فكرا وفقها وعلما ومعرفة غاية فى الاتساع والتكامل والشمول.فلا جمود مقعد ولا تحلل مفسد..إنما تجدد دائب لا ينقطع لنهر الدين فى صحراء الدنيا.ولد فى(حران)فى عصرلوث فيه الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة نبع الإسلام الصافي بمثل عقائد الحلول والاتحاد ومكان الإنسان فى الوجود..خالطين بين الحكمة والنبوة حيث فضلوا الأولى على الثانية واعتبروا النبوة خطابا للعامة فقط أما الحكمة فهى نبراس الخاصة المنتخبة من العقول الذكية وقالوا إن الكل مندمج.. الخيروالشروالكفروالإيمان فلا ثنائيات إلا فى عين غيرالعارفين !!وأضحى التقليد الفقهى هوالعلم الذى يدرس وتنشأ عليه الأجيال..وإذا بالأمة كلها فى حاله ابتعاد غريبة عن منابع قوتها وتفاعلات الحركة فيها ونتيجة لذلك جمد الفكروضمرالاجتهاد وانسحقت إرادة المسلم تحت وطأه التصوف القائل بالفناء غاية للوجود وتمزقت الأمة فكريا وسياسيا..وأصبحت هذه الأفكاربمثابة تدين شعبى مؤيدا من السلطة وتحول الدين عن حقيقته الاجتماعية وأصبح نموذجا للانقطاع عن المجتمع والدنيا..ولنا أن نعلم أن بن تيميه أثنى على شيوخ التصوف الأوائل مثل الجنيد والكيلانى فما مثل بن تيميه يجهل قدرهؤلاء..هاجم فقط أهل الحلول والاتحاد أمثال الحلاج وبن عربى و بن سبعين الذين اعتقدوا باتحاد الذات الإنسانية بالذات الإلهية اتحادا جوهريا. جاء بن تيميه فأصل للأصول وقعد للقواعد وقدم الإسلام المنهج والرسالة سهلا صافيا ليكون مؤتلفا مؤتلقا..كما جاء به الرسول الكريم (يريد الله بكم اليسر )و(ما جعل عليكم فى الدين من حرج)و(يريد الله ان يخفف عنكم)..من من أبناء هذه الأمة يسمع هذه الآيات فلا يسير بين الناس إلا كندى البكور وكنسائم الأصيل.؟ من من أبناء هذه الأمة يسمع هذه الآيات فيطاوعه قلبه على أن يسير بين الناس ميئسا لهم من رحمة الله يلقى على نواصى طريقهم بألغام الحرام والمكروه فى حين أن كل شيء حلال إلا ما حرم وهو معدود كما قال بن حزم(قل تعالوا اتلوا ما حرم ربكم عليكم...)وعدا ما حرم فالكل مباح والكل حلال .. أصل بن تيميه العدل كأصل للسياسة التى تمنح الشرعية.. وكان يقول بعدم الحاجة إلى نص يكفى فقط عدم المخالفة..الآن نسمع من الغلاة مطالبه بنص يبيح وحديث يحلل..!!تأملوا كلمه(يكفى عدم المخالفة)..وارثوا معى كل فقيه جعل الله له نورا وكل عالم أتاه الله فقها....نحن لا نلتفت الى هؤلاء الغلاه ولا نهتم بهم.. نحن نتسمع للملائكة التى تدعو(ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا..)ونتعبد بقول الحق تبارك وتعالى(إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما..) كان فقيه الأمة الأعظم يرى أن كل ما يؤدى إلى إصلاح الناس ويحقق لهم العدل فهو(شرع)وإن لم ينص عليه (كتاب أوسنة).. أصل بن تيميه لمبدأ أن الأمة هى الأساس الوحيد لمشروعيه الحاكم.وهى بالتالي مصدر السلطات..مؤولا بيعه(السقيفة)و(استخلاف)عمر للستة من الصحابة أن ذلك كان مجرد(ترشيح)وليس(بيعه نهائيه)..فأبوبكر كان خليفة فى بيعة الأمة له فى المسجد وليس فى السقيفة..وعثمان لم يكن خليفة بمبايعه أهل الشورى ولكن فى بيعة الأمة بالمسجد . أصل ابن تيميه لمبدأ تدخل الدولة فى الحياة الاقتصادية مؤكدا لمسؤوليتها الاجتماعية .تدخل لصالح الناس والمجتمع وليس لصالح أهل النفوذ النافذ والسطوة الساطية. فقه التيسير الذى قدمه بن تيميه فى مجال العبادات أكثرمن أن يحصى وتلمس فيه نبض الحياة وحرارة الصدق. يكفى أن نعلم انه أجاز الجمع بين الظهروالعصرمثلا لضرورات العمل(.وكان يرى أهميه أن تعمل المرأة وتستقل ماليا..وله في فقه الطلاق تبصر ورؤى ما كانت لأحد غيره.. كان بن تيميه ولا ريب أعلى من المستوى العلمي والفكري للجيل الذى نشأ فيه كما قال الندوى..ولا أجد حرجا فى القول وأعلى من المستوى العلمي والفكري لجيلنا أيضا..(وسامح الله إخوان 65وجيل السبعينات ). لم يرى بن تيميه حاجة الى كتابه تفسيرجديد للقران فجمع أثارا فى التفسيروعلق عليها فى ثلاثين مجلدا..كما فعل سيد قطب تقريبا فى الظلال.وترك فى العقائد سبع كتب أشهرها :موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان..وفى الفلسفة ترك ثلاثة كتب نقض المنطق ورد أهل الإيمان على منطق يونان والرد على المنطقيين..وفى الاجتماعيات ترك السياسة الشرعية والحسبة .جمعت فتواه فى ثلاثين مجلدا..وكان أشهر تلاميذه على الإطلاق بن القيم وأيضا الحافظ الذهبى الذى قال عنه(ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه.. مارأيت أحدا اعلم بكتاب الله وسنه رسوله ولا اتبع لهما منه) . [email protected]