لا أدري لماذا آلت أحوالنا إلى ما آلت إليه؟ إن أكثر المتشائمين لم يكن ليتخيل أن الثورة المصرية التي أبهرت العالم ونالت إعجابه ستصبح مثار شفقة العالم أجمع. ولا أظن أن أحدًا كان يتوقع أن يحكمنا الدكتور محمد مرسي بمثل هذه الآلية التي أقل ما يقال فيها إنها لغز من الألغاز، حتى صار الناس فيها على طرفي نقيض: بعضهم يقول إن إدارته للأمور تتسم بالضعف ، وبعضهم يقول إنه ضعف تكتيكي له ما بعده. والأمر الذي لا يختلف عليه اثنان هو أن هناك خللاً ما في إدارة الرجل، وأن الناس في حالة إحباط شديد حتى إن شعبيته بدأت تتآكل، لأن الناس كانت تنتظر منه الكثير فكانت النتيجة ما نراه ونسمعه. ولا خير فينا إن لم ننصح ولي أمرنا لأن الدين النصيحة وبخاصة لأئمة المسلمين الذين يتوقف على صلاحهم صلاح ملايين الناس من المسلمين وغير المسلمين. ولذا أجدني مضطرًا لأن أهمس في أذن الدكتور مرسي الذي أحبه لأنني أحب ديني ووطني، ولأنني أرجو أن تستقيم أحوال البلاد والعباد على يديه. ومن هنا سأسوق بعض الملاحظات على إدارة الدكتور مرسي يمكن أن نسميها الأخطاء العشرة التي وقع فيها فأدت بنا إلى ما نحن فيه الآن، وهذه الأخطاء العشرة هي: 1- اللجوء إلى الصدام مع الخصوم وعدم احتوائهم، فلقد مكّن الله للدكتور مرسي وفاز في الانتخابات بأعجوبة كانت آية من آيات الله وفتحًَا مبينًا شفى الله به صدره وصدور مؤيديه، وكان المتوقع أن يعالج الرجل نفوس مناوئيه فيداريهم ويمسح دمعتهم ولا يستفز حقدهم وحسدهم خاصة وأنهم ليسوا بالعدد القليل بل هم قريب من نصف شعب مصر، وهذه حكمة علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم عندما عالج نفس أبي سفيان وجعل من يدخل داره آمنًا، وهذا من باب الاحتواء للخصوم ونزغ السخيمة من صدورهم حتى ولو بشكل تدريجي، فأين أنت من ذلك يا رئيسنا الحبيب؟ لقد رفعت في وجوه خصومك راية التحدي من أول أيام خطة المائة يوم، ويا ليتك أشركتهم فيها ليكونوا لك عونًا فيها ولا يفشلوها بلا رحمة بك ولا بشعبك. 2- استعجال المعركة مع فلول النظام السابق وتجريدهم من كل سمات الخيرية والوطنية. ولا يمكن لمنصف أن يضع جميع هؤلاء في سلة واحدة، فمن أتباع النظام السابق من هم مخلصون ووطنيون، ومنهم من هو على استعداد لأن يتوب إذا فتحت له أبواب التوبة، فلماذا نكون عونًا للشيطان عليهم ونحشدهم ضدنا؟ هذا إذا كانوا غير ممكّنين، فما بالنا وهم من حكموا البلد وأداروه لعشرات السنين وجميع مفاصل الدولة في أيديهم سواء في الداخلية أو في القضاء أو في الحكم المحلي أو غير ذلك؟ كان الأجدى أن تفتح لهم الباب لخدمة الوطن والتعاون على رفعته. أما من ثبتت جريمته منهم فهذا الذي يجب أن يحاكم لينال عقابه. 3- كثرة المساعدين والمستشارين بطريقة لافتة للنظر، وكأن الأمر مزاد لإرضاء أكبر عدد من شرائح المجتمع حتى ولو كان ذلك على حساب الكفاءة والأمانة، والنتيجة أن باع أكثرهم الرئيس في أقرب فرصة أمكنتهم، وصاروا يتبرأون منه واحدًا تلو الآخر، ومنهم من حرص على أن تكون استقالته بشكل دراماتيكي على الهواء مباشرة، ولا مانع من أن تصحبها دموع ليكون المشهد أكثر تأثيرًا. 4- ترك العنان للإعلام الفاسد ليزيف الحقائق ويسيء الأدب ويبلبل أفكار الناس، بلا أي مهنية أو احترافية أو حتى ذرة ضمير أو حياء. وقد بُحّ صوتنا من أول يوم تولى فيه الدكتور مرسي الحكم، وقلنا إنه لابد من وضع معايير للإعلاميين المنفلتين، فمن أساء منهم حوسب ولو أدى ذلك إلى منعه من الظهور على الشاشة لئلا يثير الفتن، ولكن لا حياة لمن تنادي. والنتيجة أن تغوّل هذا الإعلام وتوحش وصار ينهش في عقول المصريين ويستفز مشاعرهم ويوغر صدورهم ليل نهار. وياليت الدكتور مرسي استجاب لنا من البداية. 5- عدم الالتحام بالناس وتهدئة خواطرهم، فالناس يريدون أن يعرفوا رأي الرئيس فيما يحدث كل يوم، ولكن الرئيس مختفٍ عن الأنظار لا يراه الناس لأسابيع طويلة، وإذا خرج عليهم يومًا لم يجد الناس منه إلا إعلانًا دستوريًا صادمًا أو خطابًا روتينيًا ليس فيه أي جديد، وما هكذا تساس الأمور لأن الناس إذا أحبوا زعيمًا تعلقوا به وصاروا يرصدون كل كلمة وحركة وإشارة وهمسة تصدر منه، فلماذا يبخل الرئيس مرسي على شعبه بذلك؟ إن سياسة الاحتجاب ثم الظهور المفاجئ لتفجير قنبلة سياسية هي أبعد السياسات عن كسب قلوب الناس، لأن الناس يحبون من يريحهم ويفسح لهم الأمل ويبشرهم بالخير لا من يثير مخاوفهم ويجعلهم إذا خرج عليهم يتوجسون خوفًا ويقولون اللهم اجعله خيرًا، يا ويلنا من شر الحليم إذا غضب. 6- التراجع عن القرارات بعد إصدارها، وليس في الرجوع إلى الحق عيب، ولكن الأولى أن يدرس القرار قبل إصداره لئلا تصير الأمور مضيعة لهيبة الرئاسة التي تكسر عصاها في كل مرة سواء في قرار عودة مجلس الشعب أو قرار عزل النائب العام أو قرار زيادة أسعار بعض السلع أو قرار الإعلان الدستوري إلخ، وقديمًا قالوا إن عصا العزة ينبغي أن تبدى للناس ولا يضرب بها لئلا تنكسر، ولكن عصا عزتك - يا سيدي الرئيس - قد انكسرت مرارًا وهذا ما يدمي القلب ويكثر الأحزان. 7- ترك العنان لأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين ليتكلموا وكأنهم نواب لرئيس الجمهورية أو متحدثون شخصيون باسمه، وهذا ما ألقى ظلالًا من الشك والريبة على هيمنة الجماعة على قرارات الرئيس، وعزز الاتهامات التي يكيلها أعداء الرئيس له من أنه رئيس لشريحة معينة من الشعب، أو أنه يأتمر بأمرها ونحو ذلك من الأشياء التي نربأ بالرئيس عنها، وأغلب ظننا أنه بريء منها. ولكن كيف يصدق الناس ذلك؟ 8- إسناد الحكومة إلى شخصية أقل ما يقال فيها إنها ليست رجل المرحلة، فالبلاد في حالة غليان والمشكلات تترى في حين أن رئيس الحكومة رجل هادئ ومؤدب ولكنه ليس ذا خبرة واسعة، وكان الأولى أن يؤتى مكانه بشخصية محترفة متحركة قادرة على التصدي للمصاعب بكل ما تستدعيه المواقف من الشدة والحكمة في آن معًا. ويمكن القول بأن شخصية الدكتور مرسي الهادئة كانت في حاجة إلى شخصية تكملها وتتسم بالديناميكية والخبرة وسرعة الحركة. 9- عدم الحزم ووضع الشدة في موضعها والرفق في موضعه، واليوم نرى هيبة الدولة تنتهك والبلطجة تستفز مشاعر الناس في ميدان التحرير وعند القصر الرئاسي وعلى أبواب مجمع التحرير وعلى أبواب الوزارات وعلى الطرق الرئيسية ، حتى صار الناس يتساءلون أين الدولة؟ وأين رئيس الجمهورية؟ ولماذا لا يحمينا ويحمي بلده من هؤلاء المجرمين؟ لماذا لا يثور لأعراض النساء اللاتي اغتصبن؟ هل هو ضعيف؟ هل الدولة ضعيفة؟ أين الحزم يا رئيسنا العزيز؟ إذا كانت طبيعتك طيبة ومتسامحة فإن سياسة الدول تستدعي ممن هو ألين الناس أن يكون شديدًا في بعض المواقف. ألم يكن أبو بكر الصديق شديدًا عندما حارب المرتدين ووقف أمام عمر الذي أراده عن أن يحارب من يشهدون أن لا إله إلا الله؟ لقد قال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله: أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كان يؤدونه إلى رسوله الله لجاهدتهم عليه. وقديما قال المتنبي ووضع الندى في موصع السيف بالعلي مضرّ كوضع السيف في موضع الندي 10- المراهنة على عامل الوقت، فقد يظن الدكتور المرسي أن الوقت سيكون في صالحه، وأن المشاكل قد تحل نفسها بنفسها، وأن خصومه سيخطئون ويحترقون وينتهون بلا عناء أو تعب، وهذا وإن كان ممكنًا إلا أنه ليس الاحتمال الوحيد، لا سيما وأن التاريخ يعلمنا أن ترك الخطأ لا يزيده غالبًا إلا استفحالًا، وأولى بنا أن نقتحم المشكلة لننهيها من أن نتركها لتنهينا. وأخيرًا هذه الأخطاء هي أهم الأخطاء وذكرها يغني عن غيرها، ولابد من التسليم بها وتصحيح ما أمكن منها، فكل يوم يمضي يبرهن على أنها أخطاء، وآثارها تتفاعل كل يوم أكثر من الذي قبله، فياليت الرئيس مرسي يتدارك الموقف قبل فوات الأوان، وأظن أن الأوان لم يفت بعد.