لا أؤمن بقول الشاعر ، الذي يستشهد به دائما في رثاء الأحباب : والموت نقاد على كفه ..... جواهر يختار منها الجياد لأن الموت في الحقيقة لا يختار ولا ينتقي ، ولكن ينال الجميع بلا استثناء ، فهو المصير المحتوم لكل موجود إلا رب الوجود ، والفارق الوحيد هو في الميعاد ، قد يأتيني أنا اليوم ويأتيك أنت غدا ، ولكن الحكماء قالوا كل آت قريب ، والبعيد ما ليس بآت. وإذا كان الشاعر نفسه الذي قال البيت السابق ، وهو ابن النبيه المصري ( 560 – 619 هجرية ) ، قال قبله : الموت للناس كخيل الطراد .... فالسابق السابق منها الجواد فالواقع أيضا أن مسألة السبق هذه مسألة نسبية بحتة ، وما أعتقده هو أن يتمنى المرء حسن العاقبة وحسن الختام ، وينتبه قبل أن تسرقه الأيام ، فأما العمر طوله وقصره ، ومتى تأتي للإنسان ساعته ، فليدع ذلك لمن قال سبحانه في محكم كتابه : "وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت" ، ولمن قال جل في علاه : "ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " ، صدق الله العظيم. مات مصطفى محمود .. هذا ، بمنطق الناس والأعراف السارية ، ولكن بمنطق آخر يمكنني القول من وحي عنوان أحد كتبه إنه "خرج من التابوت" ! نعم ، خرج مصطفى محمود من تابوت الدنيا الضيق المعتصر للنفس بالآلام والهموم إلى رحابة الآخرة والأمل في رحمة الرحمن الرحيم. هذه ليست مقالة تذكر سيرة الرجل وأعماله ومآثره ، أو تسرد كتبه ومقالاته وأفكاره ، هذه زهرة زائر محب أضعها على قبره ، ودعاء بالرحمة من قاري ممتن لما انتفع به منه ، ووقفة مع ما بقي منه بعد رحيل الجسد الفاني. من نكد الدنيا أنني وجدت موقعا طائفيا متعصبا ينضح بالحقد على الإسلام والمسلمين ويتفنن في رميهم بالفظائع ونعتهم بالبذاءات ، وتصيد الأخطاء لكل من ينتمي لهم ، وضع أصحابه من بين ما وضعوا في ركن الكتب المتاحة للتحميل المجاني كتاب الدكتور مصطفى محمود "الله والإنسان" ، وهو أول كتاب صدر له ، وكان فيه شكوك فيها رائحة الإلحاد ، ولا أدري والله ماذا يريدون بهذا الذي فعلوه ؟! أجهل أم سذاجة أم استعباط ؟! ألم يعلموا أن الإنسان في كل مكان وعلى مر العصور والأزمان هو كائن عرضة للتقلب والتغير ، ولعله الكائن الوحيد الذي يراجع موقفه من الحياة والوجود ، سواء كان ذلك إلى الأفضل أو الأسوأ ؟ لم ينكر مصطفى محمود أنه بدأ مسيرته الفكرية بهذا الكتاب ، الذي لم يطبعه مجددا ، فالرجل كان صادقا مع نفسه ، وهكذا كانت بدايته ، شك وقلق وحيرة ، ولكنه لم يقف عند تلك المرحلة ، وإنما انهمك في رحلة بحث مضنية وطويلة عبر كل ما يخطر وما لا يخطر ببالنا من أديان ومعتقدات ومذاهب واتجاهات ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب ، ويمينا ويسارا ، ومن أقدم القديم إلى أحدث الحديث ، مرورا بالماركسية والوجودية والليبرالية وأديان الهند والصين واليوجا والتصوف ، إلى أن بلغ الغاية ووصل إلى شاطيء النهاية والهداية عندما وجد الإسلام طريقا هاديا ومقنعا وملهما. وسرد تجربته في كتابه "رحلتي من الشك إلى الإيمان". ولكن أقواما رزقهم الله تعالى عينين فأبوا إلا أن ينظروا إلى الأمور بعين واحدة كالأعور ، فلا يرون في مصطفى محمود الكاتب المقتنع بالإسلام والمبشر به والداعي إليه والمدافع عنه على مدى نحو خمسين سنة من عمره إلا مصطفى محمود صاحب الكتاب الإلحادي في شبيبته الحائرة المبكرة ! وقبله وبعده فعل ذلك الكثيرون ، منهم في تراثنا الإسلامي أبو حامد الغزالي في "المنقذ من الضلال" ، بل فعله قبل هؤلاء جميعا نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي توسل إلى من خلق هذا الكون أن يهديه إلى الحقيقة وإلا فلن يهتدي إليها أبدا : "فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين". بل فعلها - في تراثهم هم – من اتبعوا يسوع ، حسب زعمهم ، وقبلوه مخلصا ، فهلا وقفوا بنفس المنطق عند ماضيهم الوثني مثلا ليقولوا هذا هو نهاية المطاف ، وهلا وضعوا في ركن كتبهم المجانية للتحميل مع كتاب " الله والإنسان" كتب الرجل الأخرى التي تتابعت على مدى قرابة نصف القرن عن الإسلام والتي نضحت باطمئنانه القلبي واستقراره الفكري بعد رحلة البحث عن الحق ، لكي يكون ثمة توازن وصدق في عرض واجهة الرجل الفكرية ، أم أن الغرض مرض ؟! لقد كان كتاب مصطفى محمود الأول هذا ، ولا يزال في رأيي، حجة له لا عليه باعتبار ما بعده ، فهو يشير إلى أن الرجل كان صادقا مع نفسه وهو يعاني الشك والضلال ، فلما سعى إلى طلب الحقيقة مخلصا وهداه الله تعالى إليها كان صادقا مع الله تعالى أيضا ومخلصا فلم يؤثر الضلال القديم على الهدى وضرب بانتقادات خصوم الدين عرض الحائط ومضى في طريقه راشدا ينشر العلم النافع ويقيم لله مسجدا ومستشفى شبه مجاني ويساعد المحتاجين ويبصر الناس بحقائق الدنيا والدين. مات مصطفى محمود ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله ، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ، واجزه اللهم خيرا بما ترك من علم ينتفع به ، وصدقة جارية ، وولد صالح يدعو له. وأما الطائفيون الجهلة المتعصبون ، فاللهم إن لم يرجعوا للحق من قريب ، فعاملهم اللهم بما يستحقون ، نفوض الأمر إليك فيهم ، ولا نقول إلا ما يرضيك ، "فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" ، " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا" ، صدق الله العظيم.