كانت هذه شهادة طلال الأنصارى، كما سجلها إلينا نصاً، ولن نشأ أن نتدخل فى أية تفاصيل، لأننا ونحن نقيم التاريخ، نكتب كل الشهادات كما وردت.. إلا أن هذه الشهادات ليست كلها على مستوى واحد من المنطقية، وليس معنى ذلك أننا نتهم أحداً بالكذب، إلا أن الإنسان قد يقع فى سوء التصور. وإذا كنا نسلم بكل ما ذكره طلال بخصوص النشأة الدينية والمؤثرات الاجتماعية، فإن ذلك التسليم صغناه فى مقدمة هذا المؤلف.. كما أننا سبق وذكرنا فى ثنايا هذا الكتاب أن اقتحام الفنية العسكرية كان هو الوسيلة للحصول على الأسلحة والمدرعات اللازمة لإحداث الانقلاب، إلا أن هذا لا ينفى أن هناك خطة مفصلة كانت خاصة لاقتحام الفنية العسكرية بكل ما فيها من مخاطر، والدليل على ذلك هو أقوال طلال الأنصارى نفسه فى التحقيقات ولم أشأ أن أتعرض لهذه التفصيلات، ولكن تفنيد شهادة طلال التى خالفت ما لدى من معلومات جعلتنى أستدل على عدم صحة أجزاء من شهادته من خلال أقواله نفسها. ففى محضر 13/5/1974 سأل المحقق طلال الأنصارى فى مقر النيابة بدار القضاء العالى .. س : كيف وضعت خطة اقتحام الفنية العسكرية من الخارج ؟ ج : يوم الاثنين لما كامل رجع من مصر بعد ما قابل كارم ومعه الخطة.. وابتدأ كامل يشرح لى الخطة كالآتى ... اختيار مجموعة الاقتحام وعددها ثلاثة مجموعات : الأولى : كانت مسئولة عن التعامل مع الحراس فى أول الشارع الموجود به البوابة الخلفية، والمجموعة الثانية : تتعامل مع الحراس فى وسط الشارع، والمجموعة الثالثة : مع الحراس على البوابة، وكانت الأوامر ألا يبدأ التعاومل إلا بعد أخذ الإشارة منى أو من كامل بعد أن نحصل على الإشارة من داخل الكلية العسكرية (هذا الاعتراف من طلال الأنصارى يؤكد وجود خطة مخصصة للفنية العسكرية، كما يؤكد علمه بكل تفاصيلها). وأما بالنسبة لقوله أن الإخوان كانوا على علم بهذا التنظيم وأنه قد بايع الإخوان، فنحن نصدق مسألة البيعة، لأن هذا ممكن الحدوث أما أن يكون الإخوان على علم بهذا التنظيم كلهم أو بعضهم فهذا هو المستحيل نفسيه، وذلك لعدة أسباب .. أولها : أن صالح سرية فى اعترفاته أوضح أنه كان الجسر الذى عبر منه طلال الأنصارى إلى لقاء الحاجة زينب الغزالى رحمها الله، وبالطبع فلا توجد مصلحة لسرية أن يكذب فى هذا الموضوع. لاسيما وأنه يذكر أحداثاً عادية لا تؤثر على أحداث القضية، بالسلب أو الإيجاب، وهذا بالطبع يأتى على عكس ما أملاه طلال الأنصارى فى شهادته المرسلة منه إلى هذه الموسوعة التى أفاد فيها أنه تعرف على صالح سرية بمنزل الحاجة زينب الغزالى وأنه - أى طلال – قد فوجئ بوجوده. ثانيها : أن الحاجة زينب الغزالى بشهادتها وشهادة صالح سرية قد نفرت من العلاقة بطلال الأنصارى ووصفته أمام صالح سرية بصفات تدل على عدم إعجابها بشخصه.. وهو أمر لم أكن أحب أن أخوض فيه لولا ضرورة الدفاع عن الحق والحقيقة التاريخية. ثالثها : أن الإخوان فى ذلك الوقت لم يكونوا فى مرحلة إعادة التنظيم وإن كانوا جميعاً فى مرحلة الاستشفاء وهذا بشهادة وزارة الداخلية نفسها فضلاً عما أبداه اللواء فؤاد علام فى أكثر من موضع تليفزيونى.. وأن بداية التفكير فى إعادة التنظيم بدأت فى عام 1973 .. وكانت مجرد أفكار متداولة. رابعها : أن حجم المعلومات عن التنظيم المتوافرة لدى طلال أو غيره من الأعضاء كانت فى غاية الندرة.. وهذا هو السبب الذى جعلنا نميل إلى وصف الخطة وعملية الاقتحام وما يتبع ذلك بالبساطة العملية واستغربنا هذا من شخصية لها فكرها ووزنها مثل صالح سرية. وهذا المعنى قد أكده طلال نفسه وهو يجيب المحقق فى اعترافاته فى صفحة 809 من القضية وذكر ما نصه : س : هل فى مقدرة صالح وهو الأجنبى أن يسيطر على قواتنا المسلحة ؟ ج : أيوة هو يقدر يسيطر بس مقالش إزاى هيقدر يسيطر على الجيش ومااعرفش إذا كان حيسيطر عليه بنفسه أو بمساعدة حد تانى، ويسأل عن دى هو – وكان كل كلامه لنا إن وجود الناس فى ايدينا هيسكت الناس كلها. (نقلت بنصها من محضر التحقيق) ويظهر من هذا كله أن طلال لم يكن على علم بكثير من التفاصيل بل لم يكن يعرف حتى كيف سيؤل الحكم إليه – والعجيب أن طلال كان فى ذلك الوقت من أمراء الجماعة وكان يعتبر نفسه كذلك، ففى صفحة 811 يسأله المحقق : س : وهل تناقشتم فى هذا الأمر ؟ ج : احنا تناقشنا فيه كأمراء للجماعة. وبالرغم من انه من أمراء الجماعة كما يعتبر نفسه إلا أنه لم يكن يعلم أية تفاصيل عن هذا التنظيم ولا عن خطة التمكين، بل إنه فى ص 812يؤكد فى سؤال جديد أنه لا يعرف ما إذا كان لهذا التنظيم فروع فى الخارج من عدمه. ومن هنا يبين أن هذه الخطوة المتعجلة جعلت مجموعة من الشباب يقومون على عمل ما دون أن تتوافر لديهم المعلومات اللازمة وأن الانبهار بشخصية صالح سرية كان هو الأساس فى الحركة مما يتناقض مع ما أشار إليه طلال فى شهادته المرسلة إلينا. وخامسها : أن جميع المتهمين بمن فيهم القيادات والأمراء قد أنكروا أى اتفاق أو تفاهم بينهم وبين الإخوان المسلمين، بل إن البعض منهم كان يسخر من منهج الإخوان المسلمين السلمى. سادسها : أن من المستحيل على من ألف كتاب" دعاة لا قضاة" وضحى فيه بكل رخيص وغال من أجل نشره وجعله ميثاقاً للجماعة وهو المستشار حسن الهضيبى، مستحيل عليه أن يوافق على خطة تبدأ باقتحام الفنية العسكرية والتعامل مع الحراس متسللاً، ثم الدخول إلى منطقه السلاح والتحرك بهذا السلاح لحصار رئيس الدولة. فإن قيل أنه كان لا يعلم بالخطة فأى تنظيم ذلك الذى يشار إليه ولا يعرف قائده خطة أفراده. سابعها : أن الثابت فى أقوال صالح سرية أن المستشار الهضيبى نفسه قد تهرب منه شخصياً ولم يعد يقابله حتى على المستوى الشخصى .. وأنه رفض المذكرة المقدمة من صالح سرية رفضاً أغضب صالح نفسه لقيام الهضيبى برفض منهجه وأسلوبه فى التفكير. ورُب قائل أن صالح سرية كان يريد إبعاد الشبهة عن الإخوان، والرد على هذا يأتى فى أقوال صالح سرية نفسه الذى انتقد فكر الإخوان المسلمين انتقاداً واضحاً فى العراق وفى مصر رغم أنه كان أحد أبناء هذه الجماعة، وأنه ذكر طواعية قصة علاقته بالهضيبى ولم تكن هذه القصة فى مذكرة معلومات القضية التى ولدت بلا معلومات أصلاً على النحول الذى استعرضناه فى الأوراق .. فلو كان سرية يريد التستر على الإخوان فما كان بحاجة أصلاً إلى أن يذكر اسم الهضيبى، لاسيما وأنه كان أو ل من حقق معه من المتهمين. والدليل الأخير .. أنه بالرجوع لشهادة من بقى على قيد الحياة من الذين ساروا على نفس النهج والفكرة الجهادية والذين طلبوا منا عدم ذكر أسمائهم ومنهم من ذكره طلال الأنصارى فى شهادته لنا، وهؤلاء جميعاً قد أجمعوا على أن الإخوان لم يكونوا طرفاً فى هذه القضية، بل إن البعض يذكر ذلك فخراً. وختاماً فإننا نترك هذه الشهادات جميعها أمام القارئ مع تعليقنا عليها، ونترك الحكم له وللتاريخ مع تأكيد منا بأننا حاولنا قدر الإمكان أن نقدم كافة المعلومات التى حصلنا عليها من واقع نصوص التحقيقات التى أجريت بمقار أمن الدولة والتى لم يسبق نشرها من قبل، وذلك فى محاولة منا لكشف صفحات مجهولة من تاريخ الحركات الإسلامية فى صراعها مع السياسة الأمنية فى مصر. وجميل أن ننشر شهادة الصديق العزيز "طلال الأنصاري" والأجمل منها أن نرد عليها فلا يغضب والأجمل من ذلك كله أن نجتهد جميعاً في الاستفادة من التاريخ وأن نجعل من الخلاف في الرأي جسراً جميلاً لنصل به إلى الحقيقة في جو من الود والمحبة وأقول مرة أخرى : "إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقى الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" "الآية 88-سورة هود"