إحدى البديهيات المُسلّم بها بين العقلاء أن المشاريع الناجحة في العالم يقف خلفها شخص أو أكثر؛ يطلقون شرارتها ويأخذون بزمامها، وفئات تؤمن بها وتصطبغ بصبغتها؛ تبشر بها وتذود عنها وتضحي في سبيلها.. وبغير الشخص الرمز والكتلة الصلبة لا تولد المشروعات العملاقة، ولا تصمد، ولا تكسب احترام الآخرين.. لأنه إذا تخلف الرّمز ابتداء فليس هناك مشروعات خَلاّقة، وإذا افتقر الرّمْزُ من الكتلة الصلبة لا يُكتب للأفكار الانتشار والمنافسة ولو كانت صوابًا مطلقًا!. فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام - وهم مؤيدون بالوحي – يأتي "النبي ومعه رهطٌ، والنبي ومعه رجلٌ، والنبي وليس معه أحد" وما بهم عيب حاشاهم، ولكن الأجيال التي بُعِثوا فيها أجيال مُتصحِّرة من الفضائل. عاريةٌ عن المروءات والذوق السليم الذي يستهدي به العقلاء عادة إلى مكارم الأخلاق؛ فتكون بيئتهم محلًا قابلًا لأنوار الوحي وهدي الرسالات.. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مدركًا لهذه الحقيقة، مُوضِّفًا لها أحسن توظيف.. انظروا إليه يوم حنين، وقد انهزم الناس ينادي "يا عباس اصرخ: يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة، فناديتُ، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنّت إلى أولادها". إن الذين ناداهم العباسُ هم جمهور وجَمّ غفير؛ فيهم الفقيه والمقرئ والعابد والشجاع والتاجر..لكنهم كانوا خلاصة عشرات الألوف من المسلمين. وعام تسع من الهجرة سُمي عام الوفود!. ولِم لَمْ يكن عام الوفود عام اثنين أو ثلاث من الهجرة ؟. لم يكن في هذا التاريخ لأن المشروع الإسلامي وقتها غير معروف ولا جاذب بما يكفي؛ بل كان يراهن خصومه على هزيمته٬ ويتربص عامة الناس أن يُحَقّق التحالف الدولي والتعاون الإقليمي الذي تتبادل أدوارَه قريش ويهود وفارس والروم والحبش والفلول المنافقون؛ أن يحقق هذا التحالف أهدافه في ضرب المشروع الإسلامي وحرمان أتباعه من إنتاج « دولة أنموذج » كانت السنين الأولى أعوام تضحية ودفاع عن القيم الجديدة، كانت الكتلة الصلبة من المهاجرين من مكة، والأنصار الذين آووا ونصروا.. كانوا هم من يصابر ويدفع الثمن دماءً وعَنَاءً٬ ويفتح بإذن الله شهية الحيارى ويُشجِّع المترددين٬ وينتصر على الفلول المتآمرين.. فلما توالت النجاحات وتُوِّجَت بفتح مكة فَرّ الفلول؛ وهم الكتلة الصلبة للنظام الجاهلي المنهار، وعرف الناس والقبائل أن الدولة للإسلام؛ حينها أقبلت وفود العرب مبايعة ومُبارِكة ومهادِنة!. ولقد كان الفاروق يشكو من ضعف الكتلة الصلبة بعد اتساع بلاد المسلمين وكثرة الموَلَّدين وحديثي العهد بالإسلام؛ يقول "اللهم أشكو إليك جَلَد الفاجر وعجز الثقة" أي ضعف تماسك الكتلة الصلبة في مواجهة جَلَد الفَجَرة؛ لأن "الفاجر والثقة" في كلام عمر مُتّجه إلى الجنس. أما اليوم فإن الكتلة الصلبة في مشروعنا الإسلامي هم خِيَار الشعب من العلماء والدعاة والشباب المجاهد والعامل، والأكاديميين ورجال الأعمال والإعلاميين.. وغيرهم من المحِبّين للمشروع الإسلامي، التّواقين لأن تكون الشريعة حاضنة دستورهم ومَرجِع أحكامهم.. وظيفةُ هؤلاء الأخيار حماية المشروع الإسلامي، وحسم التردد لدى الغالبية التي أَرْبكها مَكرُ الفلول الكُبَّار، وأخطاء بعض الطيبين؛ حسمُ مواقفهم لصالح الانحياز إلى مشروع الأمة والفطرة، وليست وظيفتنا العيش في محميات فكرية وسياسية خاصة. ليست وظيفتنا أيها الصالحون والمصلِحون الإغراق في الدراسات والبحوث والمؤتمرات حول إقرار المفاهيم البدهية التي تجاوزها الواقع وأصبحت برامج عمل لدى الآخرين، أو تشكيل جبهات معارضة سلبية ، أو إطلاق مشاريع جيدة كالجمعيات أو الأحزاب، ثم الارتماء في أحضانها وإغلاق أبوابها في وجوه الجماهير!. وقد تقولون: أبوابُنا مُشرَعةٌ، وأقول: إنها مغلقة عمليًا بشعاراتنا الصاخبة ومسمياتنا المُحْدَثَة، وخلافاتنا اللامتناهية على بعض الشكليات، وخصوماتنا البَيْنِيّة باسم المنهج وتنقية الصفوف.. أبواب مؤسساتنا ومشاريعنا مغلقة عمليًا بِضَعف الأداء وتردد المواقف، والتأخر وترك زمام المبادرة، ثم البحث عن مواقع متأخرة، لا تليق بحجمنا ولا ترفع رأسنا أمام محبينا.. أبواب مؤسساتنا ومشاريعنا مغلقة عمليًا بِحَدّية المواقف غير المدروسة، بل المغلوطة، وعدم تحديث معارفنا، وغيابِ الرأي المؤسسي الحُرّ، القادر على تحرير وفرض رؤية شرعية مقاصدية، بدلًا من الآراء المُسَيَّسة التي تتجاهل النوازل وتَجبُن عن قول كلمة الحق الجامعة للناس المحقِّقة لمصالح عمومهم.. وبديلًا للآراء الفردية التي ربما تَستظهِرُ الترخّص في إبقاء شخصٍ على معصية؛ تألفًا له وخوفًا من نفوره، وتَذهل عن تألّف شعبٍ ولمّ شَعَثه، استدراجًا له إلى الفضائل، وأن يصطف مع أَوْلى الفريقين بالحق..على قاعدة "يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ".. لقد تحولت الكتلة الصّلبة إلى شظايا ذات رؤوس حادّة تَجرَح كل من اقترب منها.. يُخْرِب بعضُنا بيت بعضنا الآخر.. ويَشُقّ بُردَه.. دواليك حتى كُلُّنا غيرُ لابِس والَهْفَ!َ نَفْسِيَ إن كانت أُموركمُ شتى وأُحْكِم أمرُ القوم فاجتمعا نحن في مرحلة فارقة، وما لم ننخرط نحن - حَمَلةَ المشروع الإسلامي- في أعمال جماعية، ونتسلح بالوعي السياسي٬ ونمارس الحوار والتعايش الاجتماعي والشجاعة الأدبية.. ما لم نكن كذلك فلن نؤثر تأثيرًا يوازي كثرتنا وتضحياتنا، وأَهليّة مشروعنا، ورحم الله الفاروق؛ كَيْفَ لو رأى عَجْز ثِقاتنا وجَلَد فُجّارنا!؟ اللهم ثبت على الحق أقدامنا.. واجعل أفئدة الناس تهوي إلينا.