مر عامين على ثورة الشعب المصرى التى سجلها التاريخ باسم (ثورة 25 يناير)، ومنذ اندلاعها، ومصر تعيش أثقل أيامها منذ خلقت، وكأن الزمن توقف، عامان مرت أيامهما كما الليل الطويل، كذلك الذى قال عنه امرىء القيس: كأن نجومه بكل مغار الفتل شدت بيذبل، أو كأن فجره يجرى أمامه ولا أمل فى أن يلوح لنا ليبدد ظلمات هذا الليل الطويل، الذى مع طوله ضللنا الطريق، وفقدنا الدليل، وعلت أصوات الجميع، الكل يتكلم فى وقت واحد، وكل متحدث نصب نفسه زعيما، أو حكيما، أو قائدا، أو واعظا، أو على الأقل ناشطا يعيش فى خيمة ويلف حول عنقه الكوفية الفلسطينية. اليوم يجر أسبوع، والأسبوع يجر شهرا، والشهر يجر عاما، ومضى عامين، ولا أرى سوى حالة من الفوضى والتخبط، سادت فيها الخلافات والانشقاقات حتى بين أبناء الفصيل الواحد، وبات الوضع فى مجمله أسوأ مما كان عليه قبل اندلاع هذه الثورة الفريدة فى تاريخ الانسانية. الثورة كانت لحظة فاصلة فى تاريخ هذا الشعب، حطمت قيوده، وأذابت كل حواحز الخوف التى اتحدت بجيناته الوراثية منذ زمن الفراعنة، فانطلق كالخيل الهارب من الأسر يعدو ويقفز دون أن يحدد لنفسه طريقا، بلا سائس يسوسه أو حادى يقوده، أو علامات يهتدى بها، ودون رادع يردعه، كخوف من خطر أو أذى ينتظره، فظن أنه ملك الدنيا، وأنه من حقه أن ينال كل شىء فيها. حالة غريبة تسيطر على هذا الشعب، لقد حرر نفسه من القيود، فانطلق دون ضابط حتى شارف على الخطر، ويقف الآن على حافة السقوط والضياع، بعد تدهور الوضع الاقتصادى لدرجة خطيرة، فى ظل حالة من الفوضى ليس لها مثيل فى تاريخ مصر، وحالة انفلات أمنى عجز خمسة وزراء داخلية تولوا الوزارة بعد الثورة عن السيطرة عليها، وإعادة الأمن والأمان للمجتمع المصرى. ما سبق يعد إخفاقات للثورة، فلقد أخفقت الثورة فى تحقيق نتائج إيجابية ملموسة للشعب المصرى، وبالنظر إلى نتائج ثورة يوليو 1952، سنجد أن الأخيرة حققت نتائج ايجابية ملموسة خلال وقت قصير، بدأت بالإصلاح الزراعى، وبناء المصانع والمدارس والجامعات والمستشفيات، وكان الشعب كله إلا فئة قليلة يعلن تأييده الأعمى لكل خطوة يقوم بها ضباط الجيش الذين قاموا بالثورة، وتحول كبيرهم جمال عبدالناصر إلى زعيم أسطورى وبطل استثنائى، فما هو سر ذلك؟. السر فى ذلك ليس معضلة، فقد فطن جمال عبدالناصر رغم صغر سنه إلى حقيقة هذا الشعب، فهو الشعب الوحيد فى العالم الذى ظل يحكمه الأجنبى لأكثر من ثلاثة آلاف عام بالحديد والنار، وارتضى الخنوع والخضوع والمهانة، فجبل على الطاعة العمياء، بسبب الخوف الذى فى ظله ينصلح حاله، وتستقر أموره، وتنتظم حياته. بشىء من الخوف، نجح عبدالناصر فى حكم هذا الشعب وحقق ما قيل عنه انجازات غير مسبوقة، ولولا هذا الخوف ما استطاع تحقيق أى شىء، بل ما استطاع أن يبقى على كرسى الحكم لشهور قليلة، ولنتذكر سويا ما قام به عبدالناصر منذ بدايات تولى ضباط الجيش حكم البلاد، وكان أول عمل قاموا به هو مصادرة الملكية الخاصة للأغنياء من الأراضى الزراعية وتوزيعها على المزارعين فيما عرف باسم "الاصلاح الزراعى"، لخلق مجتمع اشتراكى تكون الدولة فيه هى الفاعل الرئيسى، ثم حل الأحزاب وأغلق الصحف والمنابر، ثم أمم كل المصانع والشركات الخاصة، ثم أمم الصحف وزرع فى كل صحيفة رقيب من ضباط الجيش يمارس ابتزازات رخيصة على الصحفيين الذين أصبح مستقبلهم مرهونا بإرضائه. خلق عبدالناصر مجتمعا اشتراكيا، بقرارات فردية محصنة بموجب دستور (ملاكى) من الطعن عليها قضائيا، وفى ظل هذا المجتمع الاشتراكى أصبحت الدولة هى المسيطرة على كل وسائل الانتاج، وخضعت العملية الانتاجية بكل عناصرها ومفرداتها إلى سيطرة الدولة، والدولة أصبحت هى جمال عبدالناصر، وجمال عبدالناصر أصبح هو الأمة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفى ظل تغييب إعلامى وترهيب أمنى، أصبح جمال عبدالناصر هو المانع المانح، هو الذى يمنح المواطن سكنا يأويه ومن حق الدولة طرده منه، وهو الذى يعطى للمزارع مساحة من الأرض (الأراضى المصادرة) ليزرعها ويتعيش منها ومن حق الدولة سحبها منه، وهو الذى يمنح كل مواطن مقرراته من الدقيق والزيت والسكر والشاى، ومن يحلم بزيادة هذه المقررات لا يجدها، ومن يضبط معه فوق هذه المقررات يصبح مجرما يزج به فى غياهب السجون تحت دعاوى باطلة، وشعارات كاذبة، منها أنه يسرق قوت الشعب، لكن الذى لم يفهمه أحد أنه فى ظل هذا النظام الاشتراكى أصبح طعام كل فرد وعلاجه وتعليمه بيد الدولة، والدولة هى الزعيم، والزعيم يطبق المثل الشعبى: جوع كلبك يتبعك، فتحول الشعب إلى قطيع يهلل ويصفق خوفا من الجوع والتشرد، فكل محابس الحياة فى يد الزعيم، لكن يحسب له أنه ترك لهم الهواء يتنفسون منه بلا عدادات فكان من حق كل مواطن أن يتنفس بدون حق أقصى!!. فتح عبدالناصر السجون على مصراعيها، دون التقيد بأى شروط، فكان يدخلها الصبية والشباب والعواجيز، والفتيات والنساء، وفى السجون كان هناك وحوش فى أشكال آدمية، عرفوا بزبانية السجن الحربى، الذى ابتناه محمد على لتعذيب المماليك فيه، وفى هذا السجن ارتكبت أبشع الجرائم فى حق الانسانية كلها، كتلك التى ارتكبها الكاثوليك فى حق المسلمين بعد سقوط غرناطة عام 1492، ففي سجون الزعيم انتهكت الأعراض، وسحقت الكرامات، واستهزىء بالقرآن وبالصوم والصلاة، وقال أحد زبانيته مقولته الشهيرة: الله مسجون فى الزنزانة المجاورة (!!). لم يكن مسموحا لأكثر من خمسة أفراد أن يجتمعوا ولو صدفة فى شارع أو فى مقهى، وكان الاعتقال والسجن والتعذيب والقتل ثم الدفن يتم بقرارات من صباط صغار وشواشية حهلاء بمباركة الزعيم، وكان نصف طلبة الجامعة يتجسسون على النصف الآخر، ونصف الأسرة الواحدة ينقلون للأمن تصرفات النصف الآخر، ولا تعرف من مع من وضد من، فالكل خائف مرتعد. نهبت ثروات مصر، فتآكل احتياطى الذهب الذى يغطى العملة الورقية، ومن وقتها والجنيه المصرى أصبح من أحقر عملات العالم، وسرقت مجوهرات الأسرة المالكة ونفائس قصورها، وتم تدمير الثروة العقارية يتحويل مئات القصور إلى وحدات حكم محلى ومدارس، وكان يمكن استغلالها والاستفادة من عائدها فى بناء المدارس، لكن بدافع الحقد والغطرسة، تم تدمير مجموعة من أجمل القصور فى العالم إلى مبانى خدمات عامة، وسرعان ما دمرت خلال سنوات قليلة. وعودة إلى ثورة يناير، تلك التى حققت سبقا تاريخيا فى تاريخ مصر، بأن يختار الشعب حاكمه من خلال انتخابات حرة نزيهة، وجاء حاكم ديمقراطى، لم يصدر قوانين استثنائية، بل ألغى كل القوانين التى تقيد حرية الحركة وحرية الرأى، وأزال أية قيود لتشكيل الأحزاب، وإصدار الصحف، فكان أن خرجت جمعيات وأحزاب وائتلافات وحركات ومراكز، وصحف وفضائيات تنهش فيه ليل نهار، وساقوا الآلاف يخربون ويحرقون، يرتكبون الجرائم التى من شأنها ضرب الأمن القومى المصرى فى سويداء قلبه، فسادت حالة من الفوضى فى كل مرافق وأجهزة الدولة، فى ظل انفلات أمنى رهيب، يهدد بقاء هذه الدولة وهذا الشعب، وكل ذلك سببه أن الرئيس المنتخب أعطى لهذا الشعب حقه المسلوب فى الحرية، فإذا بهذه الحرية تصبح "مطية الاخفاق"، ويصبح من الضرورى أن يتم سحب هذه المطية وإعادتها لعشها، وإطلاق الديكتاتوريات من أوكارها، فهذا الشعب كما قال أحمد نظيف رئيس وزراء النظام الفاسد: "غير مؤهل للديمقراطية"، هذه حقيقة مؤكدة، وكون أنها صدرت عن أحد رموز النظام الفاسد لا يبرر رفضها، فكثبر من المجرمين والمجانين والفاشيين تخرج من أفواههم الحكم، وما قاله نظيف يعد من قبيل الحكم والمأثورات، هذا الشعب غير مؤهل للديمقراطية، وأنا أضيف: هذا الشعب تدمره الديمقراطية وتحرقه حرقا، هذا الشعب مثل سائق التاكسى الذى كان يقود سيارة تعمل بالمانافلة، تسير دقائق وتتعطل ساعات، فلما تعطفت عليه الحكومة، وسحبت منه سيارته القديمة القبيحة التى تسير كالسلحفاء، وأعطته سيارة حديثة، تنساب بنعومة وهدوء وتنطلق بسرعات عالية، اخترق كل القوانين، نسى دواسة الفرامل وأصبح وكأنه يقود (صاروخا) يرتكب الحوادث وكل يوم يسجل خسارة، لأنه بات فى نعمة لم يقدرها، كذلك الشعب الذى ينطلق بلا فرامل تصبط حركته. هذا الشعب مثل الجنى الذى حبسه سيدنا سليمان فى قمقم وألقاه فى البحر، فلما تمكن صياد سمك من انتشال القمقم، وقام بحكه خرج له هذا الجنى، وبدلا من أن يشكره لأنه حرره من سجنه، فإذا به يقول لمن فك قيده: أنا هنا مسجون فى هذا القمقم منذ قرون ولم يطلق سراحى أحد، حتى قررت أن أقتل من يفعل ذلك، وأنت أطلقت سراحى، والمعروف الذى سوف أسديه لك هو أن أخيرك بأى طريقة تريد أن تموت: غرقا؟ أم خنقا؟ أم ذبحا؟.