لم تكد وسائل الإعلام المحلية والعالمية تتناقل نبأ فجيعة قطارى البدرشين، حتى خرج علينا العديد من رموز النظام السابق، يتصدرهم الهارب منهم، ليربطوا مباشرة بين شرعية رئيس الجمهورية وبين هذه الحوادث، متناسين عمدًا أن هذه الحوادث من الثمار المتأخرة لنظام ديكتاتورى بائد، وأن هذا النظام الديكتاتورى لم يترك مصر للرئيس الشرعى المنتخب، إلا وهى أضعف من بيت العنكبوت. نعم، هو يوم ثلاثاء أسود ذلك الذى ضرب بسحابة الحزن العميق على مصر بفقدانها 19 شابًا من خيرة شبابها فى فجيعة قطارى البدرشين.. ولا يقل سواده قتامة عن يوم السبت الأسود فى السابع عشر من نوفمبر الماضى الذى ضاع فى فجيعته الكبيرة 47 طفلاً كانوا لآبائهم وأمهاتهم سعادة الحياة الدنيا وزينتها تمشى على قدمين. وبين الخامس عشر من يناير والسابع عشر من نوفمبر.. كم من شباب وأطفال ورجال ونساء.. خطفت منهم الحياة خطفًا على حين غرّة فى الطرق البرية وهو ما تطالعنا به اليوم تلو اليوم وسائل الإعلام المصرية. وتوازيًا مع كل ذلك، فإننا نعايش يوميًا الموت فى كل شارع مصرى وفى كل زقاق مصري.. وقد أتى يحمل أسماءً أخرى غير مسمى "حادثة قطار".. إنه الموت الذى يحمل اسم "تلوث الدم".. "الفشل الكبدي"، "الورم الخبيث".. إلى غيرها من الأسماء المشئومة التى تغلغلت فى أقدار ومصير وبنية الأسرة المصرية أيما تغلغل وجعلت الحياة فيها رأسًا على عقب. إننا كمسلمين نؤمن بالقدر خيره وشره على ما فى القدر من مرارة.. ولكننا فى الوقت نفسه مطالبون شرعًا بأن نبذل ما فى وسعنا.. حتى تكون ضربات هذا القدر "أقل احتمالاً": "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". إن هذه المفاجع التى تباغتنا اليوم تلو اليوم.. هى تركة الإهمال المطلق التى خلّفها نظام مبارك الديكتاتورى لمن يأتى من بعده وهى تركة أعظم خطرًا وأفدح ثمنًا وأطول حضورًا من القتل العمد لثمانى مائة من خيرة شباب مصر خلال أحداث الثورة والمنسوبة لهذا النظام، فلقد جثم هذا النظام الديكتاتورى على صدور المصريين عاملاً بمبدأ "لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون". لقد ورث أول رئيس مصرى مدنى منتخب مصر من نظام مبارك العابث وهى أوهى من بيت العنكبوت فى البنية الأساسية.. وفى النقل وفى التعليم وفى الصحة وفى المالية والاقتصاد وفى البيئة ومقومات الحياة الأساسية وأدناها وأهمها مياه الشرب. وبالطبع كانت مصر ستدرج على قائمة الشركات المفلسة المعروضة للبيع لو كان هذا البلد شركة من الشركات التجارية التى فشلت إدارتها، فلم تصبح فقط شركة عقيمة الإنتاج وإنما تحولت هى نفسها إلى بضاعة مزجاة. لذا فإن الدهشة تأخذ المحايد المنصف مأخذها حينما يخرج رمز بارز هارب من العدالة من رموز مبارك وينسب هذه الفظائع جملة وتفصيلاً لنظام رئيس منتخب شرعيًا فى الأمس القريب، بل ويطالب فى هذا الصدد بإسقاط الشرعية عنه.. وكأنه يفرك فى يديه فرحًا مستبشرًا مسرورًا بهذه الفجيعة وغيرها، وكأن لسان حاله يقول: "يا لفرحتى أن يقع مثل هذا الحادث حتى أنال ممن حرمنى من أن أكون رئيسًا". والأعجب من ذلك أن هذا الهراء تصفق له بعض الصحف المغرضة وتصدر مثل هذه التصريحات فى أولى صفحاتها وتتفنن فى إعادة إنتاجها إعلاميًا فى شتى المواقع الإلكترونية لتتحول هذه الصحف إلى منشورات مسيلمة الكذاب. لقد سئم الشعب المصرى هذه المتاجرة الرخيصة بأكبر مصائبه وسئم المصرى الصوت الجهورى للباطل.. ولذا فقد بات ضروريًا جدًا.. أن ينتبه المشرّع المصرى إلى ما تحتمه ضرورة اللحظة وأن يصدر قانونًا جديدًا بإنشاء أرشيف مبارك.. يرصد فيه بصمات الفساد الذى تعرض له المواطن وتعرضت له مصر فى هذه الحقبة وتودع هذه البصمات الموجودة فى جميع ربوع البلاد وفى جسم المواطن المصرى وعقله فى هذا الأرشيف، كما تودع فيه أيضًا مستندات جهاز أمن الدولة المنحل التى تحكى قصة الظلم والعدوان على مصر بلدًا وشعبًا. إن النظام المصرى الحالى وإن قبل التحدى ليصلح بيت العنكبوت وهو تحدٍ ضخم.. فإن الأجيال القادمة من حقها أن تعرف بأكبر دقة ممكنة صوتاً وصورة كيف عاشت مصر هذه الحقبة المظلمة من تاريخها. إن مثل هذا الأرشيف لن يمنع تعرض مصر مجددًا لمثل هذا العدوان من الداخل ولكنه سيسهم بقدر كبير فى منع تكرار هذا العدوان.. الذى ما زال يطلب اليوم تلو اليوم أرواحًا غالية جدًا من أرواح المصريين والمصريات، ولنا فى أرشيف حزب الوحدة الاشتراكى الديكتاتورى فى ألمانيا الشيوعية المتبخرة عبرة حسنة. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]