من آيات التسامح والرحابة وقبول الآخر لدى الأقليات السياسية الرافضة للإسلام، أنهم يتخلون عن حق الحرية فى التعبير والتفكير، إذا تعلق الأمر بكاتب أو أديب أو مثقف يتبنى التصور الإسلامى ويصدر عنه، فالإسلام مع أنه دين الشعب المصرى كله؛ سواء كان عقيدة وشريعة أو ثقافة وحضارة، لا يحق له فى مفهوم هذه الأقليات أن يكون موجودًا فى المشهد الفكرى أو الثقافى! فى الستينيات من القرن الماضى، صدرت مجلة شهرية لليساريين المتحالفين مع النظام، وقد وضعت المجلة على صدرها عبارة لفولتير المفكر الفرنسى المعروف. تقول: من واجبى أن أدافع عن رأيك حتى لو بذلت دمى فى سبيله، وقد تصورت آنئذ بسذاجة الفلاح الغشيم أن هناك فرصة حقيقية للتعددية الفكرية، وأن المجلة ستكون هايد بارك للمثقفين المصريين على اختلاف فصائلهم وتعدد مشاربهم، ولكن الفجيعة أن من وضع عبارة فولتير شعارًا للمجلة كان يقصد الدفاع عن حق فصائل اليسار وحدها، أما فصائل الأغلبية فلا مكان لها على صفحات المجلة التى تحمل شعار فولتير، مع أنها هى التى تمول المجلة وتدفع مرتبات كتابها وثمن طباعتها، ولحسن الحظ أنى احتفظت بمعظم أعداد هذه المجلة التى قنّنت عمليًا لمنهج الإقصاء والاستئصال ونفى الآخر من خلال استحواذ الأقليات وهيمنتها وسيطرتها واستيلائها على وسائط النشر والتعبير التى يملكها الشعب كله. تحرير مصر من قبضة الإنجليز السمر عام 2012 بعد ستين عامًا من القمع والقهر، والاستبداد والطغيان، والإذلال والتعذيب، والسلب والنهب، والهزائم والجرائم؛ فرض مجددًا أن تشارك الأغلبية فى قضايا الوطن، أو تكون حاضرة فى كل ما يتعلق بها بالتصويت فى الانتخابات العامة والمهنية والنقابية، والتعبير عن أفكارها فى وسائط الإعلام والصحافة، والمشاركة بالرأى فى المؤسسات الرسمية والمنتديات المتنوعة.. ولكن الأقليات ترفض فى استبسال غير نبيل هذه المشاركة من جانب الأغلبية، وترى أنها - أى الأقليات - صاحبة القول الفصل فى كل ما يتعلق بشئون البلاد والعباد، ومنطقها يقول: إنها بقيت على حجر الاستبداد ستين عامًا تشرّع وتقنّن، وتفسّر وتؤوّل، وتسوّغ وتبرّر، وكانت تجد مقابلاً غير قليل لجهودها المنكورة غير المشكورة، جعلها حتى اليوم تعاير من ينتقدها بأنه لولا الحكام الطغاة ما تعلموا وما كان لهم وجود فى الساحة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، وكأن تعليم الشعب من أمواله وعرقه منّة تستوجب المعايرة من جانب الطغاة وأبواقهم، ترى لو أنهم كانوا ينفقون على الناس من جيوبهم وممتلكاتهم ماذا كانوا سيفعلون بنا؟ إنهم لا يقبلون وجودًا للأغلبية الساحقة فى الحياة العامة، وقد فعلوا ما استطاعوا من أجل تشويه الأغلبية ودينها وثقافتها، واتهموها بالجهل، وأنها تتحرك من أجل كيس أرز وزجاجة زيت، وتناسوا أن عشرات الألوف من المثقفين الذى ينضوون تحت لواء الإسلام أو الأغلبية يحملون أعلى الدرجات العلمية فى أدق التخصصات، وبعضهم مرتبته متقدمه على المستوى العالمى، ويصنف من بين العشرات أو المئات على مستوى العالم، ورئيس جمهوريتنا المنتخب الحالى الذى تجرأ بعض المؤدبين ووصفه بالعبيط، يعد من الفائقين فى تخصصه الدقيق بشهادة الأمريكان، ولكن القوم يرون المسلم بصفة عامة ساذجًا ونكرة! أحدهم تحدث عن تعجبه لأن صفحات الصحف الكبرى تضم بعض كتابات لنفر من الإسلاميين! لم تعجبه الكتابات وأنى له ذلك، ووصف هذه الكتابات بالسذاجة لأنها بعيدة عن الاستنارة التى يدعو إليها، وقريبة من الغدة الدينية المتضخمة كما يسميها، وبعد ذلك يخرج مثل رفاقه للدفاع عن حرية الفكر وحق التعبير.. يا له من تناقض! وبعضهم يفجعك حين تطالب بحقك بالمشاركة مثل الآخرين فى القضايا العامة، فيتهمك أنك نكرة لا يعرفك أحد حتى لو كنت تحمل أرقى الشهادات العلمية، وأعلى الدرجات الجامعية، وتملك موهبة لا يملكها هو ولا رفاقه، وقدمت من الجهد العلمى والأدبى ما تفخر به الأمة كلها! إنه لا يعترف بك لأنك لم تتهافت على فتات الاستبداد الفاشى، ولم تنافس على خدمة الإجرام البوليسى، ولم تتبتل فى محراب التملق والتدليس والتزييف والتزوير والتبرير! لقد اعتمد النظام الفاشى البائد – وهذه مفارقة غريبة – على مجموعة من محدودى الموهبة، ومتواضعى الشهادة، وصنع منهم نجومًا ليتصدروا المشهد العام (تأمل على سبيل المثال نسبة خمسين فى المائة من العمال والفلاحين فى مجالس التشريع والإدارة!)، ولو أنك نظرت فى المجال الفكرى إلى مستوياتهم المعرفية المتدنية، بدءًا من الكمسارى بالابتدائية وعامل البريد بالابتدائية أيضًا وعامل النسيج بالإعدادية والعاطل الذى يحمل كفاءة المعلمين والممرض الذى يحمل محو الأمية حتى البائع السرّيح، وبائع الخضروات والفاكهة راسب الثانوية الأزهرية وباحث الشرطة الذى يحمل دبلومًا بعد الثانوية بسنتين، وغيرهم ممن دفعهم مركب النقص العظيم إلى إيثار خدمة الطغاة، والوقوف ضد الحرية والكرامة والأمل لدرجة أن وصفوا الطاغية المخلوع بالمواطن حسنى مبارك الذى لا يحتاج إلى وصف أكثر من ذلك، بعد أن أقام من وجهة نظرهم العدل وحقق ما يريده المصريون! أرجو ألا يفهم أحد كلامى أنه انتقاض من أصحاب الشهادات المتواضعة والمهن البسيطة، فأنا واحد من أبناء البسطاء، وأرصد حالة من حالات الخلل فى البناء الاجتماعى، جعلت الأدنى فوق الأعلى حتى منح نفسه حق إهانة الآخرين!