لم أجد تفسيرًا منطقيًا حتى الآن لذهاب تظاهرات المعارضة إلى قصر الاتحادية إن كان الهدف فقط هو تسجيل الاعتراض على قرارات الرئيس "خصوصًا" في ظل الظروف الداخلية المحتقنة التي سبقت الإعلان الدستوري الصادر في 22 نوفمبر والاستقطاب المتواصل لفئات الشعب المختلفة وفي غياب وعي كامل من قبل العامة لطبيعة الصراع النخبوي في مصر وفي وجود إعلام غريب جدًا لا ينتمي إلى المهنية إطلاقًا، أفلا يكفي ميدان التحرير والاعتصام فيه! للأسف باتت الأطراف كلها تتسلح بمؤيديها و"المندسين" فلما يلوم البعض الداخلية والجيش! لا أدري لماذا يهدر دماء المصريين بهذه البساطة باسم الثورة؟ المتابع للمشهد المصري لا يملك سوى أن يشعر بالحزن بسبب غياب المنطق والعقل فالمغالاة في رد الفعل أدى إلى مأساة إنسانية بالدرجة الأولى وفوضى سياسية واقتصادية كان من الممكن تجنبها ومن يتابع ردود الفعل الأولية لبعض زعماء المعارضة لأيقن أنها لا تناسب رؤساء محتملين لمصر في الفترات المقبلة...! لا يعني هذا أن مسودة الدستور لا تخلو من عيوب أو أن بعض المواد مثيرة للجدل لكن كان يجب أن يتم التعامل معها بحكمة وذكاء سياسي لا بالجدل السفسطائي العقيم المتعب الخالي من الدسم فالدساتير ليست كتبًا سماوية، والعاقلون يعرفون أن أي دستور يمكن تغييره أو تعديله في المراحل المختلفة لحكم الشعوب كما حدث في أمريكا نفسها وكان على المعارضة الاستعداد لخوض الحرب بشرف! إن الساحة مفتوحة في عالم السياسة لمن يملك الدهاء والمكر وفن المناورات طالما في مصلحة الوطن، ولا أتذكر في تاريخ مصر كله أن اهتم العامة بتفاصيل الدستور ورغم أنه شيء إيجابي فإن دستور 71 مثلًا كان يحافظ اختصارًا على حرية المواطنين وحقوقهم لكن النظام السابق كان يفعل ما يريد في الوقت الذي يناسبه واحتفظ بقانون الطوارئ سيفًا مسلطًا على رقاب الشعب لسنوات طويلة ما أفقد الدستور قيمته! يجب أن يكون هناك تحليل منطقي وموضوعي وفهم لمسودة الدستور قبل الاستفتاء عليه والنخبة تتحمل مسؤولية بناء الوطن وتأهيله لدولة مدنية ديمقراطية لكن ليس بالدستور وحده تحيا الشعوب! لا أتذكر أيضًا في أي مرحلة من تاريخ مصر أن رأيت هذا العدد الهائل من الخبراء والمتخصصين والقانونيين والكتاب والصحافيين الذين يطلون علينا من خلال قنوات فضائية لا حصر لها بعض برامجها وصمة عار على جبين مصر بشهادة كثيرين في الداخل والخارج! إن بعض الإعلاميين يعبثون بعقول العامة البسطاء وينصبون أنفسهم رعاة لمصالحهم مستغلين أمية البعض طامحين ليكونوا أبطالًا لشعب طيب في جوهره لكنه لا يبحث فيما يقال! الأهم أن البعض يعرف بأن هناك عوامل خارجية تؤثر فى المشهد المصري أهمها مصالح واشنطن الاستراتيجية في مصر والمنطقة بأكملها. هؤلاء يعرفون جيدًا أن مسودة الدستور قرأها صناع القرار الأميركيون والأوروبيون كما يعرف البعض أيضًا بأن المؤسسة العسكرية هي السلاح الأخير لواشنطن لسحب البساط من تحت الرئيس مرسي وجماعة الإخوان في أي وقت تراهم يهددون مصالحها! البيت الأبيض أيضًا يعرف جيدًا بأن استخدام العنف للإطاحة ب"الإخوان" الذين وصلوا إلى الحكم "ديمقراطيًا" قد يحول مصر إلى جزائر آخر ومن ثم فمنح الجماعة فرصة للحكم وهي معروف عنها بأنها برجماتية غير متطرفة دينيًا هو أفضل سيناريو لواشنطن الآن خصوصًا ولديها ملفات أكثر أهمية في الوقت الراهن... إن الاستقرار السياسي والاقتصادي لمصر سيجعلنا نتفرغ لمتابعة برنامج النظام الحاكم فنصوبه إن أخطأ ونذكره إن نسي وعوده للشعب ولا ننتخبه مرة أخرى إن أساء السلطة! هناك وجهتا نظر لابد من اتباعهما معًا للوصول إلى أفضل نتائج في التعامل مع أي موقف خصوصًا في عالم السياسة والاقتصاد وهما وجهة نظر "الطائر" ووجهة نظر "الدودة" فالطائر يرى الصورة الكلية ويغفل التفاصيل أما الدودة فترى أدق التفاصيل ولا تعرف الصورة الكلية أي مكانة مصر وعلاقتها بالآخرين ومصالحها الدولية والإقليمية. لا شك أن جماعة الإخوان "الحديثة في الحكم" ارتكبت بعض الأخطاء لكن للأسف الدود في مصر لا يعترف أصلًا بالطائر!