جمال سلطان في أعقاب رحيل قوى الاستعمار عن العالم الثالث ، ومنه معظم العالم الإسلامي منذ أوائل النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه ، تولت الحكم في كثير من هذه البلدان نخب عسكرية من الضباط الصغار ، استطاعت أن تقفز على السلطة الرخوة في ذلك الحين ، بعضها بالتواطؤ مع قوى أجنبية صراحة ، وبعضها بغض الطرف عن تحركاتها باعتبارها تقطع الطريق على قوى أخرى " راديكالية " أو إسلامية كانت مؤهلة للوصول إلى الحكم ، وكانت هذه النخب العسكرية تفتقر إلى الوعي الثقافي والفكري ، كما تفتقر بطبيعة الحال إلى الخبرة السياسية ، وبالتالي واجهت مشكلة معقدة مع مجتمعاتها التي كانت تمور بالقوى الوطنية الثائرة ضد الاستعمار ، والنخب المثقفة ، والنخب السياسية المتمرسة على النضال السياسي المركب والجدل الاجتماعي المفتوح ، فلم تكن النخب العسكرية التي قادت الانقلابات وسيطرة على مقاليد الحكم بقادرة على مجاراة هذه الخبرة الاجتماعية والسياسية والنضالية العميقة ، ولم تكن بحكم تكوينها وخبرتها العسكرية بقادرة على الدخول في حوار جاد أو جدل خلاق تطرح من خلاله مشروعها للنهضة ، بل إنهم كانوا يفتقرون إلى المشروع النهضوي بالفعل ، فلجأ بعضهم إلى البرامج السياسية للأحزاب السابقة ، وخاصة الراديكالية منها ، وانتقوا منها بعض أفكارها ووجدوا من يوفق لهم بينها لتقديم برامج جديدة لنهضة شعوبهم ومجتمعاتهم ، وكان من نتيجة هذا الخوف من الحوار الوطني العميق والحر ، أن لجأ العسكريون إلى الإعلام لكي يقوموا بتأميمه وتحويله إلى جهاز دعائي محض ، يمجد هذه النخبة الجديدة ، ويفرض الإيمان بعبقريتهم وبسالتهم على عموم الشعب ، دون نقاش أو تفصيل ، باعتبار أن الإعلام هو رسالة من طرف واحد ، وهو السلطة ، وعلى الطرف الآخر أن يستمع ، ولا مجال له للسؤال أو النقاش ، ناهيك عن الرفض أو المعارضة ، وعندما ظهرت المنشورات السرية للتعبير عن آراء من لا آراء لهم كانت تشن حملات أمنية هستيرية على من يقوم بطبع المنشور أو توزيعه ، ومن هنا تحول الإعلام إلى آلة للقمع النفسي والفكري للشعوب ، وأصبح يمثل الدعامة الثانية من دعائم نظم حكومات ما بعد الاستقلال ، حيث كان " الأمن " هو الدعامة الأساسية ، ورغم أن تحولات عديدة جرت في الحياة السياسية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي إلا أن وعي السلطة بالإعلام ظل كما هو عندما تم التأسيس له في مرحلة ما بعد الاستعمار ، أي مجرد آلة قمع فكري ونفسي مملوكة للسلطة وحدها ، وكان طبيعيا أن يكون وزير الإعلام في هذه النظم مجرد راع للأمن الفكري والدعائي للاستبداد ، هذا بالإضافة إلى دوره كمسلي للحاكم ومدغدغ لعواطفه ، من خلال الحفلات التي تعقد له ، والمهرجانات التي لا تنقطع ، والتي تتغزل في عبقريته وعظمته وعميق تفكيره وبعد نظره الذي يبهر العالم أجمع ، وكان طبيعيا أن يرى هذا النوع من الإعلام أن أي كلمة نقد في السلطة هي خيانة عظمى ، وأي اعتراض على قرار أو موقف للسلطة هو إهانة للوطن وللدولة ، باعتبار أن الحاكم يختزل الوطن كله في شخصه ، فهو الوطن ، والوطن هو ، وكم من صحافي أو إعلامي عربي تعرض للبطش والسجن أو الموت أو النفي ، بسبب أنه حاول خرق مقررات السياسة الإعلامية في بلده ، والسجون شاهدة ، والمنافي ، وأعواد المشانق ، والدماء التي سالت في مكاتب الصحف أو غرف الفنادق ، وعلى الرغم من أن مساحة الحرية قد اتسعت رويدا رويدا في العقود الأخيرة ، إلا أن الانقلاب الحقيقي حدث مع انتشار ظاهرة البث الفضائي ، وأيضا انتشار شبكة الانترنت ، لقد أحدثت ظاهرة القنوات الفضائية الجديدة ثورة هائلة في التركيبة السياسية والإعلامية في العالم العربي ، لأنها ببساطة ، ألغت احتكار النظم العسكرية والديكتاتورية لآلة الإعلام الجبارة ، بل وحولت الإعلام من آلة للقمع الفكري والنفسي للشعوب ، إلى ساحة للحوار والجدل والقبول والرفض ، وأصبح المجتمع لأول مرة مشاركا في الفعل الإعلامي ، وليس مجرد متلقي أو مستمع أو مشاهد .