في وقت حرج أضحت فيه الجمعية التأسيسية للدستور المصري في مهب الريح بعد أن انسحب منها ممثلو التيار العلماني وممثلو الكنائس النصرانية لا يزال بعض الإسلاميين يصرون على افتعال معركة ضخمة حول وضع الشريعة الإسلامية في مسودة الدستور المصري، فهم يرون أن النصوص الواردة فيها لا تكفي لجعل الشريعة الإسلامية هي المرجعية الحاكمة للتشريع والقضاء في مصر، والغريب أن يؤكد بعض الدعاة أنهم سيدعون الشعب للتصويت ب(لا) ضد الدستور ما لم يتم تعديل نصوص أهمها نص المادة الثانية لتكون(أحكام الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع) بدلًا من( مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع). والسؤال المطروح هنا هل يوجد خطر حقيقي على الشريعة الإسلامية في مصر؟ وهل المرحلة الحرجة التي تمر بها مصر تسمح بتلك الحسابات الخاطئة أو المزايدات المتشددة؟ - إن نص المادة الثانية من مسودة الدستور ((الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع))، ومع إضافة المادة 220 في باب الأحكام العامة ((مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة)) صارا كافيين تمامًا للقطع بمرجعية الشريعة الإسلامية كأساس للتشريع في مصر، ولا حاجة هنا للنص على تجريم كبائر معينة كالزنا والربا وغيرهما لأن موضع ذلك في تشريع القوانين والمعني بها هم نواب الشعب في المجلس التشريعي لذا فإن مهمة تطبيق مبادئ وأحكام الشريعة ملقاة بالأساس على عاتق البرلمان القادم. - إن الأولى ببعض القوى الإسلامية التي تُغرقُ الجمهور في تلك التفصيلات أن تعمل أولًا بكل طاقتها لإخراج الدستور الجديد بما يخدم مستقبل البلاد ويعبر عن هويتها الحضارية الإسلامية دون إغراق في التفاصيل، وبعد إقرار الدستور شعبيًا عليها أن تُخطط بإتقان وتنهمك في الإعداد لمعركة البرلمان القادم الفاصلة، وحينما تنجح في كسب ثقة الجماهير وتصل لمقعد التشريع يمكن حينئذ البدء في التطبيق الفعلي لأحكام الشريعة سواء بتعديل القوانين التي بها مخالفات للشريعة الإسلامية، أو بالاجتهاد في استحداث تشريعات جديدة تخدم مقاصد الشريعة (حفظ النفس والعقل والنسل والمال والدين) كاستحداث تشريع يخول للدولة جمع الزكاة وتوزيعها على الفقراء وغيرها من الاجتهادات المطلوبة لتحقيق مقاصد الشريعة داخل المجتمع المصري. - إن غياب النصوص الدستورية التى تتيح تطبيق الشريعة الإسلامية لم تكن على الإطلاق هي المعضلة التي أعاقت تطبيق أحكامها أو تحقيق مقاصدها طوال عقود الاستبداد الماضية، ويُذكر هنا مشروع تطبيق الشريعة الذي ظل حبيس أدراج البرلمان المصري منذ مطلع الثمانينيات حين كان يترأسه (صوفي أبوطالب) ولكن المعضلة تمثلت في التوجه السياسي العلماني لدى رأس الدولة (ناصر – السادات – مبارك) المستبد بالسلطة التنفيذية والمسيطر على البرلمان عبر الأحزاب البائدة التي هيمنت على السلطة التشريعية نتيجة لإرهاب أجهزة البطش والقمع والتعذيب للقوى الإسلامية المعبرة عن هوية الشعب المصري وصاحبة الشعبية الأكبر في مصر، فالحل يكمن في توجه السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق المطلب الشعبي المتعلق بالشريعة بالصورة التى تلائم الواقع المرير الذي تعيشه مصر جراء سياسات التخريب الاقتصادي والنهب والإدارة بالإفساد وسياسات تجفيف المنابع الثقافية والإعلامية والفكرية الإسلامية. - إن العبرة في الحقيقة تكمن في الإرادة السياسية التي يمكنها تعديل تشريعات وتوجهات الدولة بأكملها نحو تحقيق المقاصد الكلية للشريعة، وحيث إن الرئيس مرسي هو رأس السلطة التنفيذية القادم من رحم الجماعة الإسلامية الأعرق في مصر والعالم الإسلامي، لذا فإن المنتظر من القوى الإسلامية بمختلف أطيافها أن تبذل غاية جهدها كي تعين الرئيس على المهمة الوطنية العسيرة والضخمة التى يخوضها نحو إصلاح هياكل الدولة وتحقيق أهداف الثورة، أما واجب الوقت على الإسلاميين والوطنيين فهو إنجاح عمل الجمعية التأسيسة بإخراج الدستور المنتظر معبرًا عن مصر الحرة المستقلة ذات الحضارة العريقة والإسراع بانتخاب المجالس النيابية عقب إقرار الدستور عبر الاستفتاء الشعبي. إن النصر الكامل للثورة المصرية لن يكتمل إلا بنجاح المسار الديمقراطي عبر بناء المؤسسات التشريعية وضبط العلاقة بين السلطات الثلاثة المستقلة بصورة تتيح تطهير جيوب الفساد الكامنة داخل السلطتين التنفيذية والقضائية، ويالها من مهمة شاقة في وقت توحدت فيه قوى المعارضة العلمانية مع فلول ورجال أعمال النظام البائد ومع شركاء الوطن المتأثرين بثقافة الإخوانوفوبيا وبتراث من التحالف بين الكنيسة والنظام البائد. إن الهوية الإسلامية الحضارية لمصر قلعة الإسلام الصامدة على مر14 قرنًا لن تتأثر بكلمة هنا أو هناك في الدستور المنتظر، كما أن تحقيق مقاصد الإسلام ودفع المجتمع المصري نحو التمسك بهويته الإسلامية لن يتحقق بالتظاهرات والخطب الرنانة، فالطريق لتطبيق الشريعة تتمثل معالمه في نجاح الإسلاميين في حكم مصر عبر أدائهم في السلطة التنفيذية بقيادة الرئيس مرسي وعبر أدائهم المنتظر في البرلمان ومؤسسات الدولة المتعددة التي ينتظرهم اختبارٌ عسيرٌ في إصلاحها وإدارتها، والخلاصة أن الشريعة الإسلامية في مصر ليست في خطر فكيف لعاقل أن يتصور ذلك في وقت تحررت فيه مصر من الاستبداد والتبعية وأمسى الإسلاميون على رأس السلطة التنفيذية فضلًا عن كونهم أصحاب الأغلبية الفاعلة في الشارع المصري؟ [email protected]