ليس غريباً أن يبشر السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زادة بخدعة الدستور العراقي، وتنكره لعروبة العراق، وقصرها على العرب السنة، فهو يعي أنها خطوة على طريق بناء الشرق الأوسط الكبير والجديد، حيث لا مكان فيه لوجود أمة عربية واحدة. بل عنوان المرحلة هو: «دويلات وكانتونات طائفية» تعلي صوت الأقليات وتتلاعب بنزاعاتها وخلافاتها، كوسيلة طيعة للسيطرة والهيمنة، وكأداة فاعلة تضمن تمدد الكيان العنصري الصهيوني، في منطقة استعصى على موجات المد الاستعماري طيلة القرون الماضية تدجينها ومسخ هويتها العربية. الغريب والمثير للدهشة والغثيان، ان ينقلب مثقف عروبي على قناعاته، ويتنكر لكل ميراثه الثقافي، ويتحول إلى نافخ في بوق الإقليمية بأسلوب سطحي فج لم يسبقه إليه احد من غلاة الإقليميين، في زمن صعودهم، بعد اتفاقية كامب ديفيد للصلح بين الرئيس المصري الراحل أنور السادات وإسرائيل، وظهور تيار مناوئ ورافض لكل ما هو عربي، في رد ساذج على قطع الدول العربية علاقاتها مع نظام السادات. بلغ الهزل السياسي والثقافي في تلك الفترة الكئيبة درجة الطعن في وطنية عدد من كبار الكتاب والمثقفين المصريين، الذين أجبرتهم الأوضاع في الداخل على الانتقال والإقامة والعمل في بغداد او دمشق والدوحة وأبوظبي والجزائر، وغيرها. وكاد السادات تحت إلحاح هؤلاء النافخين في بوق النفاق والإقليمية ان يشطب أسماءهم من عضوية نقابة الصحافيين والاتحادات المهنية، لولا يقظة الجماعة الثقافية وروادها وفى طليعتهم نقيب الصحافيين وقتها كامل زهيري، الذي رفع شعار «عضوية النقابة كالجنسية لايجوز اسقاطها ». ولولا تلك اليقظة لأسقطت الجنسية عن أسماء كبيرة: محمود السعدني، رجاء النقاش، أحمد عبد المعطي حجازي، الذي انكسر للأسف، وفاجأنا جميعا بمقاله الغريب في «الأهرام» ورفضه للعروبة، ليس ببيان متسق في حججه وفرضياته، بل بكلمات عابرة، يمكن أن تتردد على ألسنة العوام، في لحظات ضيق وتبرم، سرعان ما تتلاشى، بعد أن يعود الوعي المفقود. قرأت مقال الشاعر الكبير عبد المعطى حجازي، من منظور استبصار ما وراءه، دون الوقوع في فخ النظرة المسبقة، وانتهيت إلى ان شاعرنا لم يرحم نفسه، وأمعن في جلدها بسياط يلهب ويدمي الجلد، وهو يستعذب الألم ويستفز قارئه بقدرته «المازوخية» تحت وطأة تردي الحاضر وخوائه، وربما لامتناعه عن التصدي للسبب المباشر وراء تراجع مكانة مصر وانحسار دور العرب جميعا، وانكفائهم لمربع «التلقي» بعد ان فقدوا دور الفعل. في خطابه الاقليمي الجديد يهيل حجازي التراب على مرحلة المد القومي العربي، ويمزق كل أوراقه، ويقول «ولو ان دعاة العروبة وانا منهم اعترفوا بوجود جماعات قومية عربية متمايزة... «ويزيد» خلط دعاة العروبة بين الدولة والأمة والثقافة والسياسة. يبدو ان شاعرنا الكبير، أوقع نفسه، أو أوقعته « مازوخيته» في تناقضات وخلط بين المصطلحات والمفاهيم، وتضعه في موقع من يجهل الفرق بين «الإقليم» والأمة، الدولة والشعب، القطرية والقومية، فمن المعروف للعامة ان العرب أمة واحدة، وان تعددت أقطارهم ودولهم، فالذي يجمعهم: حضارة ولغة وتاريخ وإقليم جيواستراتيجي واحد. ورحم الله العلامة جمال حمدان صاحب موسوعة «شخصية مصر» التي يعجز اي مدع اقليمي عن الوصول لما اخرجته من مكنون الشخصية المصرية، التي ترتبط عضويا بهويتها العربية، بحيث يستحيل الحديث عن مصر دون ربطها بالعرب، فهي واسطة العقد، وبدون الرابطة العربية تنكمش مصر دورا ومكانة وتعجز حتى عن الدفاع عن نفسها، لأن الدفاع عن مصر الإقليم يبدأ من أبعد نقطة على حدود فلسطين والى الشرق عند حدود العراق، وهذا درس التاريخ وصلاح الدين الأيوبي وقبله سيف الدين قطز والظاهر بيبرس.لن التفت إلى ترهات شاعرنا وهجائه لعصر الزعيم جمال عبد الناصر، واستعارته مفردات خصومه ووصفه ثورته بالانقلاب لأن ديوان شعر حجازي به ما يكفي للرد. ----- صحيفة البيان الاماراتية في 1 -9 -2005