ما إن قال المستشار حسام الغرياني إن ثورة يوليو خدعت العمال والفلاحين واستغفلتهم حتى تفجرت غارة إعلامية هائلة ضده وصلت إلى حد السباب المتدني لشخصية جليلة كانت حتى أشهر قليلة مضت تتبوأ أرفع منصب قضائي في مصر، وهو رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وهو المنصب الذي لا يصل إليه أحد بالفهلوة ولا بالوساطة ولا بأي معيار سوى طهارة اليد وسلامة السيرة والإخلاص للعدالة، والرجل بطبيعته جاد وربما تبدو هذه الجدية في بعض الأحيان في صورة خشونة سياسية أو إعلامية، هذه طبيعة، ولكن تلك الصراحة في بعض وجوهها تكشف عن نقاء سياسي وصفاء نفس في الموقف من الأحداث والأشخاص، بعض القيادات الناصرية اتهمت الغرياني بأنه كشف عن أنه "إخواني" بسبب هذا الهجوم على أحد معالم الناصرية، وإذا سلمنا بهذا المنطق فلا بد أن نضم الراحل فؤاد سراج الدين والدكتور السيد البدوي ومئات من الرموز السياسية والوطنية الليبرالية التي لها موقف مشهور ومختوم بختم النسر من حكاية العمال والفلاحين ومجمل تاريخ عبد الناصر، فالاختلاف حول عبد الناصر لم يكن من الإسلاميين وحدهم، بل كثيرون كان لهم مواقف سلبية للغاية من عبد الناصر ومشروعه ورأي بالغ السوء، سياسيين وإعلاميين وصحفيين ومحامين وقضاة ومؤرخين ومفكرين وفنانين وعلماء دين وغيرهم، كما أن مثل هذه الغارة الوحشية على الرجل المحترم لا يمكن أن تبشر بخير أبدًا أو تعطي رسالة طمأنة من قبل أصحاب هذا التيار تحديدًا، لأنها تكشف عن استبطان لعنف بالغ في الخلاف وضيق صدر بأي رؤية ولو تاريخية، وإذا كان هذا "البطش" الإعلامي بدون أن يمتلكوا سلطة، فكيف إذا امتلكوا سلطة! ماذا يفعلون مع خصومهم في الرأي ومخالفيهم في الموقف من عبد الناصر؟! والحقيقة أن مسألة "كوتة" العمال والفلاحين في البرلمان، إذا أحسنّا الظن بطرحها في البداية، فهي تحولت الآن إلى نكتة حقيقية، وإذا استعرض أحد الباحثين أسماء ومهن من ترشحوا في الانتخابات البرلمانية وأعضاء البرلمان طوال السنوات الماضية سيفاجأ مثلًا بالسيد اللواء مساعد وزير الداخلية وقد دخل البرلمان بوصفه "عمال وفلاحين"، وسيجد خبيرًا في هندسة الطرق وقد دخل البرلمان بوصفه "عمال وفلاحين"، وسيجد أستاذًا جامعيًا سابقًا وقد دخل البرلمان بوصفه "عمال وفلاحين"، وذلك أن معيار العامل والفلاح تحول إلى مساحة من الاتساع والرخاوة تجعل تصور "الفلاح" الذي نعرفه و"العامل" الذي في خيالنا هو أبعد ما يكون عن حقيقة وجوهر تلك المهنة أو التصنيفات، هذا من جانب، ومن جانب آخر إذا كانت هذه الفكرة طرحت قبل ستين عامًا لاستيعاب مجتمع مختل علميًا ولا يمثل شريحة المتعلمين فيه أكثر من نصف في المائة، فإننا الآن أمام نسيج اجتماعيّ مختلف جذريًا، ونسبة المتعلمين تتجاوز نصف عدد السكان، كما أن العلماء والخبراء والأكاديميين والمبدعين والمشتغلين بالسياسة وكبار خبراء البنوك والصيرفة وغيرهم أصبحوا بالملايين، وبالتالي فالحديث عن "كوتة" باسم العمال والفلاحين يصبح الآن نكتة حقيقية، والقضية ليست شخص عامل أو شخص فلاح، فكم من عامل دخل البرلمان وتآمر مع السلطة على حساب حقوق العمال، وكم من فلاح دخل البرلمان وتآمر مع السلطة لذبح حقوق الفلاح، المسألة هي في الحقوق والعدالة وليس في الأشخاص، لقد استخدمت حكاية "كوتة" العمال والفلاحين أحيانًا كباب لتفريغ البرلمان من "النخبة" السياسية القادرة على كسر صلف السلطة وفضحها وتحويل البرلمانات إلى ساحة هزلية للتصفيق والبصم على قرارات وشهوات "القائد الملهم"، وأحيانًا استخدمت كباب خلفيٍّ لدخول المحظوظين من حلفاء السلطة إلى البرلمان في نزال انتخابيّ ضعيف وهامشيّ ومضمون. لكل ذلك، أضم صوتي، بكل قناعة واطمئنان، إلى ما قاله المستشار الجليل حسام العرياني، بأن "كوتة" العمال والفلاحين كانت خدعة واستغفال للوطن كله، وليس العمال والفلاحين وحدهم، وآن الأوان لكي نتجاوز مثل هذا المنطق في إدارة شؤون البلاد، فمصر كبرت، وتجاوزت مرحلة المراهقة السياسية. [email protected]