شهيرة هى قصة جحا التى لم يستطع فيها إرضاء الناس! حتى قيل "رضا الناس غاية لا تُدرك"، ولو أن أحدًا كان بإمكانه إرضاء الناس لكانوا هم الأنبياء، إذ يستوى فى شخصياتهم الكمال البشرى كما يستوى فى رسالاتهم الكمال الفكرى والروحى والأخلاقى، فكيف وقد انتصب لكل منهم عدو حتى صار أشد الناس بلاءً هم الأنبياء؟!! لو أن الناس يستطيعون حل مشكلاتهم بالتوافق لما كان ثمة حاجة للقوانين والدساتير أصلاً!، ولا كان لنا حاجة إلى أجهزة الشرطة والجيش والمخابرات.. ذلك أن وجود الدساتير والقوانين والقوة المطلوبة لتنفيذها إنما هو تعبير عن الفشل البشرى فى تسوية المشكلات بالتوافق!. وإنه لمن المشين أن تحاول صفوة الناس فى مصر هذه المحاولة؛ إنتاج دستور بالتوافق، وها قد خرجت مسودة الدستور فلم تُرْضِ أحدًا رغم المجهود الواضح لنحت صياغات ترضى جميع الأطراف، فإذا بالصياغات تمثل نموذجًا فى الميوعة والضبابية، وأحيانًا الحياء والخجل، وأحيانًا السكوت الذى هو أقبح من البيان!. المعروف بالمنطق والبداهة أن الناس يضعون دستورًا لأنفسهم، فينبغى أن يعبر هذا الدستور عنهم، سيتوافقون على البعض ويختلفون فى البعض، وهذا المُختلف فيه يجب أن يعبر عن التوجه الغالب للمجتمع، رؤيته وثقافته وطموحاته واتجاهاته الدينية واللغوية والفكرية، بالمخالفة للأقليات الدينية والسياسية واللغوية.. أما أن تنجر الأغلبيات وراء الأقليات إلى منتصف الطريق أو إلى آخره فهذا ما لا نعلم أحدًا صنعه فى العالمين!. *** على كل حال.. ما يهمنى فى هذا المقام هو التذكير بأشياء للتحذير من أشياء: 1. ضرورة إنجاز الدستور، لكى ينتخب برلمان يراقب ويحاسب الحكومة، ويُنهى هذا الجمع بين السلطة التشريعية والتنفيذية التى تلتقى فى الرئيس، فلئن كنا نحب الرئيس فالحق أحب إلينا منه.. والحق أنه يجمع بين سلطتين لا ينبغى أن يجمع بينهما، ولئن كنا نكرهه فذلك أدعى لانتزاع هذه السلطة التشريعية منه، ذلك أننا إذا رأيناه ضعيفًا كان حقًا أن نحرر سلطة التشريع من يد رئيس ضعيف لنضعها فى يد ممثلى الشعب فيأخذونها بقوة، ولئن رأيناه قويًا فهو بها يوشك أن يكون طاغية!. 2. ضرورة أن يعبر الدستور عن التوجه الطبيعى للشعب وعن انحيازاته الواقعية الفعلية، وإلا دخلنا فى مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والتطويل فيها، ذلك أن خروج الدستور محاولاً إرضاء كل الأطراف سيترتب عليه سخط كل الأطراف، وحينها إما أن يكون التصويت ب "لا"، وإما أن يكون التصويت ب "نعم" بفارق طفيف، وهو ما يُقلل من مقام الدستور وقيمته والاحتضان الشعبى له!. 3. مواقف الأطراف واضحة؛ التيار العلمانى بشقيه: الليبرالى واليسارى يرفض التأسيسية ويرفض ما سيخرج عنها من نصوص، ومنتهى أمله أن يُعاد تشكيلها من جديد ليضغط –عبر منابره التى يحتكرها بفعل خدمته للاستبداد الطويل- لكى يحصل فى القادمة على حصة أكبر.. والتيار الإسلامى سينقسم على نفسه: الإخوان سيؤيدون، والسلفيون سيرفضون ما لم يكن النص على الشريعة واضحًا وصريحًا، وبحسبة بسيطة سنرى أن الكفة الراجحة هى كفة الرفض، لاسيما إذا ضممنا إليهم كل الرافضين لعسكرة الدولة كما فى النص المعيب الذى يجعل مجلس الدفاع الوطنى دولة فوق الدولة!. 4. فى ظل عدم الثقة السائدة بين الفصائل والتيارات المختلفة –وهنا أعنى الفصائل الإسلامية- فإن هذا ينذر باشتعال معركة إسلامية إسلامية بين الإخوان (المؤيدين) وبين كل الرافضين (سلفيين، إسلاميين ثوريين، مستقلين).. وبصراحة تامة نقول إن المعركة بهذا الشكل طاحنة، والعبارات المتوقعة آنذاك ستكون كالتالى الإخوان = نفعيون، جبناء، أصحاب صفقات، يخافون أمريكا والعسكر، يتسترون بغطاء إسلامى ولا ينصرون الشريعة.. إلخ، فى مقابل السلفيين = ليس لديهم فقه الواقع، متشددون، مثاليون، لا يفهمون موازين القوى، كانوا عملاء لأمن الدولة.. إلخ!، والإعلام –العلمانى- فى المدرجات يهتف ويحرض، ويعلق ويحلل، ويثير ويهيج!!، وقد نشبت هذه المعركة أصلاً لأن طرفًا كان يحاول شراء رضاه وسكوته!. 5. بعد المعركة لدينا احتمالان: أ. أن تستقر النتيجة على التصويت بنعم، وهذا معناه: جهاد سياسى وشعبى طويل طويل لإزاحة حكم العسكر الذى عاد من جديد –وبقشرة مدنية- بمجلس الدفاع الوطنى هذا! جهاد إسلامى طويل طويل لمحاولات رأب الصدع وتجاوز الفتنة. انخفاض شعبية الإخوان والرئيس الإسلامى بما يضعف موقفه أمام العسكر والخارج والتيار العلمانى، فيكون الإخوان قد باعوا حلفاءهم الطبيعيين لشراء الأعداء القدامى الجدد ممن لا يرضون عنهم حتى يتبعون ملتهم. ب. أن تستقر النتيجة على التصويت ب "لا"، وهذا معناه: تشكيل الرئيس مرسى للتأسيسية، وهذا يجعله وحده مالكًا لمستقبل هذا البلد، بالسلطتين التشريعية والتنفيذية ثم باختيار من يكتبون الدستور.. وهذا –بغض النظر عن موقفنا من الرئيس حبًا أو كرهًا- ذو خطر، ولا ينبغى أن يكون لواحد مثل هذه السلطات!. حين يشكل الرئيس التأسيسية فهو فى موقف الأضعف بعد أن رفض الشعب دستورًا كانت جماعته وحزبه الأغلبية التى كتبته، ثم كونه وحيدًا فى الاختيار يجعله الأضعف أمام ضغوط العسكر والإعلام، ومن ورائهم أمريكا وبناتها –أى: المؤسسات الدولية!. أن ننتظر شهورًا أخرى بلا برلمان يراقب الحكومة ويحاسب الرئيس.. وتكون مصائر البلد كلها مدفونة فى الكواليس والدهاليز لا يعرف الشعب عنها شيئًا، وهذا أخطر ما يكون!. إهدار الأموال فى الانتخابات والاستفتاءات التى تتوالد طوال المرحلة الانتقالية. الضجر الشعبى من قصة "انتخابات كل عدة أشهر" مع ما يشيعه هذا من فتور عام ويأس شائع، وهو أخطر ما يمكن أن يصيب شعبًا فى أعقاب ثورة كان يأمل منها تغيير الأحوال!. زيادة الشراسة العلمانية والإعلامية، وتجذر الاتحاد العلمانى الفلولى، مع ما يعنيه هذا من احتمالات انقلاب على السلطة الشرعية المنتخبة.. ففى النهاية: ما زالت أجهزة الجيش والمخابرات والشرطة على ولائها لدولة محمد على ومنهج عبد الناصر وطباع مبارك!. ليست كل الأخطاء يمكن تداركها، فبعض الأخطاء ثمنها دماء، وبعضها ثمنه التخلف عن مسيرة الحضارة عقودًا، وقرونًا أيضًا.. وسيكون من العار أن يكتب التاريخ جملة بهذا المعنى "فشلت الثورة، وتحطمت الأحلام لأن الذين عُهِد إليهم بكتابة الدستور اعتقدوا أن التوافق ممكن، وأن رضا الناس غاية يمكن تحقيقها"!!! *** إنه ما من حضارة فى التاريخ إلا وكان لها انحيازات!، لم تُبنَ حضارة على "التوافق".. "التوافق" فى الحقيقة هو مجرد خرافة سوقها الإعلام العلمانى لأن الجميع يعرفون أحجامهم، ولسنا فى حاجة لنقول: إنهم لو كانوا الأغلبية لكتبوه وحدهم ضاربين بكل ما عداهم عرض الحائط، لسنا فى حاجة لقول هذا لأننا نراهم الآن يريدون كتابته وحدهم رغم أنهم الأقلية!، فلما لم يفلحوا وحدهم دعا واحد من زعمائهم الدول الغربية والمؤسسات الدولية إلى التدخل والضغط!، فى خيانة وطنية صريحة بشعة لا يجرؤ أن ينطق بها إلا من يعلم أن خصمه ضعيف أو مرتعش ولو كان فى رأس السلطة!. الحضارة انحياز!، وهذا قول واحد من أهم علماء الحضارة، وهو فرناندو برودويل فى كتابه (تاريخ وقواعد الحضارات) يقول: "الشائع فى كل حضارة أنها تبدى نفورًا من اعتناق فكر ثقافى يطرح دعامة من دعائمها الراسخة للمناقشة، ولئن كان هذا النفور وذلك العداء الخفى نادرًا نسبيًا فهو يؤدى دائمًا إلى صميم الحضارة.. فليس هناك حضارة –كما قال مارسيل موس- جديرة باسم الحضارة ليس لها عادات الرفض والنفور من الإسهامات الدخيلة".