لولا حبوب الأمل فى ركعتى الصباح, لاستقر الهم وما انزاح, ولولا العلم بأن فى السماء عرشه, وفى الأرض سلطانه, لما تجرعنا حبوب الصبر, وقالوا: ما الذى صبرك على الصبر, فقال لهم: لأن عدم الصبر على الصبر أوجع من الصبر على الصبر, وراح يغنى لمن حوله بأن الذى أكثر مرارة من الصبر هو اضطرارك لسؤال أحد غير مولاك, يضطرب قلبك وينهد ظهرك, وعشم إبليس فى الجنة لو رضى صاحبك وأعطاك. لولا بقية حكمة من زمان الحكمة,لمالت كفة الميزان, ولأصبح الغالى رخيصا, والرخيص ذهبا, ولولا كلام السابقين, لرزحنا تحت الظروف, وتخيلنا أن بالبحر المالح ماء عذبا, وإلا لما قيل: "اطلبوا الخير من بطون شبعت ثم جاعت, فما زال الخير فيها, ولا تطلبوه من بطون جاعت ثم شبعت, فما زال الشح فيها". والأمل لولاه علىّ، صرت فى مصر الجانى والجلاد، والمسكين والضحية, فقد قامت الثورة, وكأنها لم تقم, وثارت الناس, وكأنها لم تثُر, ويكفى دليل, هو أن نفس الوجوه هى هى، لم تتغير, تتحول ولا تتبدل, تتلون ولا تتزحزح.. ليس على الشاشة فقط, ولا على الصفحات الصفراء فقط, بل فى كل حى وحارة وسبيل ومنطقة ووزارة وعمارة. من لا يتغير يتكلس, من لا يتقدم يتأخر, من لا يوافق الهوى, يذبحه الهوى, إذن تتغير الدنيا, ويظل ساداتها هم هم، أولئك الذين واكبوا التغير وسايروا حركة ألوان الطيف, أما بقايا المخلصين, ممن قدم أمانة مصر على أمانة صحته, وقدم رسم قلب مصر على رسم قلبه, فليرحمهم الله. قال: "ليس مهما أن أتضرر, فالمهم أن تبقى مصر وتسير للأفضل"، فقيل له: أنت رجل مغفل وعبيط وساذج ومسكين, فقال: "طوبى للمساكين, فالمساكين يدخلون الجنة وللعيال رب يرعاهم"، قيل له: استيقظ, فقد غادر القطار المحطة.. ابتسم وتحسس الحزام على بطنه وشده شدة, متيقنا أنها ستزول تلك الشدة, واستخرج تذكرة السفر, وكتب عليها: "يا مصر ما فعلنا ما فعلنا إلا لوجه الله, ما نريد ولا نريد من أحد جزاء ولا شكورا...". هطلت السماء وكنا فى الصيف, رفع بصره وطلب السماح, وانتظر نفير صاحب القرن, حاملا حقيبة بيمينه, وضع بها ما ظن أنه طيب, وثقلت شماله بكل ما جنته يداه فى حقيبة أخرى. تحسس جواز السفر, فتش بجيبه, فتش, وفتش.. أخيرا وجده مغلفا مصونا بقلبه, فحمل قلبه على رأسه, وسار بين المسافرين المتأهبين للرحيل يردد: لا إله إلا الله محمد رسول الله". فمتى الرحيل؟ [email protected]