أسمع من يقول نرحب بالمبادرات الشعبية لكن يجب ألا تكون مبادرات عشوائيةً وأن يكون هناك إطار جامع مانع لتوحيد الجهود.. الحديث عن تنظيم الجهود فى ظاهره الرحمة لكن فى باطنه العذاب لأن الطبيعة البشرية تستعصى على التحديد والتقييد فى قالب واحد صارم، ولا يوجد إطار مهما كان مرناً ومهما كان القائمون عليه مبدعين قادرا على استيعاب كل العقول والاجتهادات والاتجاهات والميول.. البشر متعددون بطبيعتهم ولا بد للفردية التى يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات أن تعبر عن نفسها.. العشوائية ليست شراً دائماً بل إنها كثيراً ما تكون مفيدةً، فتعدد المبادرات فى المجتمع يوجد حالةً من الزخم الإيجابى تؤدى إلى التقدم. التنسيق بين المبادرات المتعددة والالتقاء فى مساحة موحدة لتحقيق الأهداف المشتركة هو عمل إيجابى لكن هذا التنسيق لا يعنى إلغاء هوية أى فرد أو جماعة وتذويبها فى الآخرين. ليس من حق أحد أن يسعى لإلغاء التعدد الطبيعى بحجة أنه يريد توحيد الجهود فى إطار جامع فالتعدد هو سنة الحياة وفيه إثراء للحضارة البشرية.. مفردات مثل التقييد والتحديد والضبط والانضباط والتنظيم كثيراً ما تستعملها الأنظمة الطاغوتية وتكون مدخلاً لقمع الرأى الحر وتكميم الأفواه.. يجد الطغاة مدخلاً لإدانة المبادرين من هذا الباب، باب ادعاء الحرص على التنظيم والتوحيد إذ يقولون للمبادرين نحن لسنا ضد الإصلاح ولكن هناك كيانات قائمة يمكنكم الانضمام إليها ولا مبرر لمبادرتكم.. ليس من حق أحد أن يفرض قالباً صارماً يلغى التنوع الطبيعى ويجبر الناس على الالتزام به. إذا كان النبى محمد صلى الله عليه وسلم رفض أن يوصى بخليفة له ساعة موته حتى لا يقيد حركة المجتمع الطبيعية بعده، بل ترك الأمر للتشاور والاختيار بين الناس ليظل الحراك الاجتماعى قائماً.. بل ذهب النبى صلى الله عليه وسلم أبعد من ذلك وهو المعنى الذى لم ينتبه إليه أكثر المسلمين إذ نهى النبى محمد عن تدوين أحاديثه مع أنه وحى يوحى إليه وهو لا ينطق عن الهوى فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه "لا تكتبوا عنى شيئاً سوى القرآن فمن كتب عنى غير القرآن فليمحه". لقد كره نبى الرحمة أن يفرض على الأجيال التى ستأتى من بعده قيوداً تكبل انطلاقتها فأحب ألا يبقى من الدين سوى نواته الصلبة ومبادئه العامة الأكثر مرونةً التى لا تخضع لتغير الزمان والمكان، ولم يرد أن يشق على أمته فيفرض عليها صيغاً محددةً رآها هو صالحةً لزمانه وبيئته، وربما لا تظل صالحةً حين تتغير الظروف والبيئة .. فى حديث لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة نقرأ أيضاً دلالةً هامةً، فمع أن النبى صلى الله عليه والسلام كان يحب السواك ويعرف فضائله إلا أنه لم يرد أن يرفعه إلى مرتبة الفريضة، بل اكتفى بالترغيب فيه فمن شاء التزم به ومن شاء تركه دون حرج.. المجتمع الراشد هو المجتمع الذى يشهد حالةً من الصخب والتعدد الفكرى والسياسى تنتج تقدماً وازدهاراً، أما المجتمعات الأحادية الشمولية فهى مجتمعات ميتة لا حراك فيها.. [email protected]